سورة البقرة - تفسير في ظلال القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


الظاهرة البارزة في هذا القطاع من السورة، هي ظاهرة الأسئلة عن أحكام.. وهي كما قلنا عند الكلام عن قوله تعالى: يسألونك عن الأهلة.. في هذا الجزء.. ظاهرة توحي بيقظة العقيدة واستيلائها على نفوس الجماعة المسلمة إذ ذاك، ورغبة المؤمنين في معرفة حكم العقيدة في كل شأن من شؤون حياتهم اليومية، كي يطابقوا بين تصرفهم وحكم العقيدة.. وهذه آية المسلم: أن يتحرى حكم الإسلام في الصغيرة والكبيرة من شؤون حياته، فلا يقدم على عمل حتى يستيقن من حكم الإسلام فيه. فما أقره الإسلام كان هو دستوره وقانونه؛ وما لم يقره كان ممنوعاً عليه حراماً. وهذه الحساسية هي آية الإيمان بهذه العقيدة.
كذلك كانت تثار بعض الأسئلة بسبب الحملات الكيدية التي يشنها اليهود والمنافقون، والمشركون كذلك حول بعض التصرفات؛ مما يدفع بعض المسلمين ليسأل عنها، إما ليستيقن من حقيقتها وحكمتها، وإما تأثراً بتلك الحملات والدعايات المسمومة. فكان القرآن يتنزل فيها بالقول الفصل؛ فيثوب المسلمون فيها إلى اليقين؛ وتبطل الدسائس، وتموت الفتن، ويرتد كيد الكائدين إلى نحورهم..
وهذا يصور جانباً من المعركة التي كان القرآن يخوضها تارة في نفوس المسلمين، وتارة في صف المسلمين، ضد الكائدين والمحاربين!
وفي هذا الدرس جملة من هذه الأسئلة: سؤال عن الإنفاق. مواضعه ومقاديره ونوع المال الذي تكون فيه النفقة. وسؤال عن القتال في الشهر الحرام. وسؤال عن الخمر والميسر. وسؤال عن اليتامى.. وبواعث هذه الأسئلة تمثل الأسباب التي ذكرناها من قبل. وسنعرضها بالتفصيل عند استعراض النصوص.
{يسألونك ماذا ينفقون؟ قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل. وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم}..
لقد وردت آيات كثيرة في الإنفاق سابقة على هذا السؤال. فالإنفاق في مثل الظروف التي نشأ فيها الإسلام ضرورة لقيام الجماعة المسلمة في وجه تلك الصعاب والمشاق والحرب التي كانت تواجهها وتكتنفها؛ ثم هو ضرورة من ناحية أخرى: من ناحية التضامن والتكافل بين أفراد الجماعة؛ وإزالة الفوارق الشعورية بحيث لا يحس أحد إلا أنه عضو في ذلك الجسد، لا يحتجن دونه شيئاً، ولا يحتجز عنه شيئاً، وهو أمر له قيمته الكبرى في قيام الجماعة شعورياً، إذا كان سد الحاجة له قيمته في قيامها عملياً.
وهنا يسأل بعض المسلمين: {ماذا ينفقون؟}..
وهو سؤال عن نوع ما ينفقون.. فجاءهم الجواب يبين صفة الإنفاق؛ ويحدد كذلك أولى مصارفه وأقربها: {قل: ما أنفقتم من خير}..
ولهذا التعبير إيحاءان: الأول إن الذي ينفق خير.. خير للمعطي وخير للآخذ وخير للجماعة وخير في ذاته فهو عمل طيب، وتقدمة طيبة، وشيء طيب.. والإيحاء الثاني أن يتحرى المنفق أفضل ما عنده فينفق منه؛ وخير ما لديه فيشارك الآخرين فيه.
فالإنفاق تطهير للقلب وتزكية للنفس، ثم منفعة للآخرين وعون. وتحري الطيب والنزول عنه للآخرين هو الذي يحقق للقلب الطهارة، وللنفس التزكية، وللإيثار معناه الكريم.
على أن هذا الإيحاء ليس إلزاماً، فالإلزام- كما ورد في آية أخرى- أن ينفق المنفق من الوسط، لا أردأ ما عنده ولا أغلى ما عنده. ولكن الإيحاء هنا يعالج تطويع النفس لبذل ما هو خير، والتحبيب فيه، على طريقة القرآن الكريم في تربية النفوس، وإعداد القلوب..
أما طريق الإنفاق ومصرفه فيجيء بعد تقرير نوعه:
{فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل}..
وهو يربط بين طوائف من الناس. بعضهم تربطه بالمنفق رابطة العصب، وبعضهم رابطة الرحم، وبعضهم رابطة الرحمة، وبعضهم رابطة الإنسانية الكبرى في إطار العقيدة.. وكلهم يتجاوزون في الآية الواحدة: الوالدون. والأقربون. واليتامى والمساكين وابن السبيل. وكلهم يتضامنون في رباط التكافل الاجتماعي الوثيق بين بني الإنسان في إطار العقيدة المتين.
ولكن هذا الترتيب في الآية وفي الآيات الأخرى، والذي تزيده بعض الأحاديث النبوية تحديداً ووضوحاً كالذي جاء في صحيح مسلم عن جابر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا...».
هذا الترتيب يشي بمنهج الإسلام الحكيم البسيط في تربية النفس الإنسانية وقيادتها.. إنه يأخذ الإنسان كما هو، بفطرته وميوله الطبيعية واستعداداته؛ ثم يسير به من حيث هو كائن، ومن حيث هو واقف! يسير به خطوة خطوة، صعداً في المرتقى العالي: على هينة وفي يسر؛ فيصعد وهو مستريح، هو يلبي فطرته وميوله واستعداداته، وهو ينمي الحياة معه ويرقيها. لا يحس بالجهد والرهق، ولا يكبل بالسلاسل والأغلال ليجر في المرتقى! ولا تكبت طاقاته وميوله الفطرية ليحلق ويرف! ولا يعتسف به الطريق اعتسافاً، ولا يطير به طيراناً من فوق الآكام! إنما يصعدها به صعوداً هيناً ليناً وقدماه على الأرض وبصره معلق بالسماء، وقلبه يتطلع إلى الأفق الأعلى، وروحه موصولة بالله في علاه.
ولقد علم الله أن الإنسان يحب ذاته؛ فأمره أولاً بكفايتها قبل أن يأمره بالإنفاق على من سواها؛ وأباح له الطيبات من الرزق وحثه على تمتيع ذاته بها في غير ترف ولا مخيلة. فالصدقة لا تبدأ إلا بعد الكفاية. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول». وعن جابر رضي الله عنه قال «جاء رجل بمثل بيضة من ذهب، فقال: يا رسول الله. أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك فأعرض عنه. فأتاه من قبل ركنه الأيسر فقال مثل ذلك، فأعرض عنه. ثم أتاه من خلفه فقال مثل ذلك، فأخذها صلى الله عليه وسلم فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته. وقال: يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذه صدقة. ثم يقعد يتكفف الناس! خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى».
ولقد علم الله أن الإنسان يحب- أول ما يحب- أفراد أسرته الأقربين.. عياله.. ووالديه. فسار به خطوة في الإنفاق وراء ذاته إلى هؤلاء الذين يحبهم؛ ليعطيهم من ماله وهو راض؛ فيرضي ميله الفطري الذي لا ضير منه، بل فيه حكمة وخير؛ وفي الوقت ذاته يعول ويكفل ناساً هم أقرباؤه الأدنون، نعم، ولكنهم فريق من الأمة، إن لم يعطوا احتاجوا. وأخذهم من القريب أكرم لهم من أخذهم من البعيد. وفيه في الوقت ذاته إشاعة للحب والسلام في المحضن الأول؛ وتوثيق لروابط الأسرة التي شاء الله أن تكون اللبنة الأولى في بناء الإنسانية الكبير.
ولقد علم الله أن الإنسان يمد حبه وحميته بعد ذلك إلى أهله كافة- بدرجاتهم منه وصلتهم به- ولا ضير في هذا. فهم أفراد من جسم الأمة وأعضاء في المجتمع. فسار به خطوة أخرى في الإنفاق وراء أهله الأقربين، تساير عواطفه وميوله الفطرية، وتقضي حاجة هؤلاء، وتقوّي أواصر الأسرة البعيدة، وتضمن وحدة قوية من وحدات الجماعة المسلمة، مترابطة العرى وثيقة الصلات.
وعندما يفيض ما في يده عن هؤلاء وهؤلاء- بعد ذاته- فإن الإسلام يأخذ بيده لينفق على طوائف من المجموع البشري، يثيرون بضعفهم أو حرج موقفهم عاطفة النخوة وعاطفة الرحمة وعاطفة المشاركة.. وفي أولهم اليتامى الصغار الضعاف؛ ثم المساكين الذين لا يجدون ما ينفقون، ولكنهم يسكتون فلا يسألون الناس كرامة وتجملاً؛ ثم أبناء السبيل الذين قد يكون لهم مال، ولكنهم انقطعوا عنه، وحالت بينهم وبينه الحوائل- وقد كانوا كثيرين في الجماعة المسلمة هاجروا من مكة تاركين وراءهم كل شيء- وهؤلاء جميعاً أعضاء في المجتمع؛ والإسلام يقود الواجدين إلى الإنفاق عليهم، يقودهم بمشاعرهم الطيبة الطبيعية التي يستجيشها ويزكيها. فيبلغ إلى أهدافه كلها في هوادة ولين. يبلغ أولاً إلى تزكية نفوس المنفقين. فقد أنفقت طيبة بما أعطت، راضية بما بذلت، متجهة إلى الله في غير ضيق ولا تبرم. ويبلغ ثانياً إلى إعطاء هؤلاء المحتاجين وكفالتهم. ويبلغ ثالثاً إلى حشد النفوس كلها متضامنة متكافلة، في غير ما تضرر ولا تبرم.. قيادة لطيفة مريحة بالغة ما تريد، محققة كل الخير بلا اعتساف ولا افتعال ولا تشديد!
ثم يربط هذا كله بالأفق الأعلى، فيستجيش في القلب صلته بالله فيما يعطي، وفيما يفعل، وفيما يضمر من نية أو شعور:
{وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم}.
عليم به، وعليم بباعثه، وعليم بالنية المصاحبة له.. وهو إذن لا يضيع. فهو في حساب الله الذي لا يضيع عنده شيء، والذي لا يبخس الناس شيئاً ولا يظلمهم، والذي لا يجوز عليه كذلك الرياء والتمويه..
بهذا يصل بالقلوب إلى الأفق الأعلى، وإلى درجة الصفاء والتجرد والخلوص لله.. في رفق وفي هوادة، وفي غير معسفة ولا اصطناع.. وهذا هو المنهج التربوي الذي يضعه العليم الخبير. ويقيم عليه النظام الذي يأخذ بيد الإنسان، كما هو، ويبدأ به من حيث هو؛ ثم ينتهي به إلى آماد وآفاق لا تصل إليها البشرية قط بغير هذه الوسيلة، ولم تبلغ إليها قط إلا حين سارت على هذا المنهج، في هذا الطريق.
وعلى هذا المنهج ذاته، يجري الأمر في فريضة الجهاد، التي تأتي تالية في السياق للحديث عن الإنفاق:
{كتب عليكم القتال وهو كره لكم. وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم؛ وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم. والله يعلم وأنتم لا تعلمون}..
إن القتال في سبيل الله فريضة شاقة. ولكنها فريضة واجبة الأداء. واجبة الأداء لأن فيها خيراً كثيراً للفرد المسلم، وللجماعة المسلمة، وللبشرية كلها. وللحق والخير والصلاح.
والإسلام يحسب حساب الفطرة؛ فلا ينكر مشقة هذه الفريضة، ولا يهون من أمرها. ولا ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها وثقلها. فالإسلام لا يماري في الفطرة، ولا يصادمها، ولا يحرم عليها المشاعر الفطرية التي ليس إلى إنكارها من سبيل.. ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر، ويسلط عليه نوراً جديداً إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير كريه المذاق؛ ولكن وراءه حكمة تهون مشقته، وتسيغ مرارته، وتحقق به خيراً مخبوءاً قد لا يراه النظر الإنساني القصير.. عندئذ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها على الأمر؛ ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها. نافذة تهب منها ريح رخية عندما تحيط الكروب بالنفس وتشق عليها الأمور.. إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيراً. ووراء المحبوب شراً. إن العليم بالغايات البعيدة، المطلع على العواقب المستورة، هو الذي يعلم وحده. حيث لا يعلم الناس شيئاً من الحقيقة.
وعندما تنسم تلك النسمة الرخية على النفس البشرية تهون المشقة، وتتفتح منافذ الرجاء، ويستروح القلب في الهاجرة، ويجنح إلى الطاعة والأداء في يقين وفي رضاء.
هكذا يواجه الإسلام الفطرة، لا منكراً عليها ما يطوف من المشاعر الطبيعية، ولا مريداً لها على الأمر الصعب بمجرد التكليف. ولكن مربياً لها على الطاعة، ومفسحاً لها في الرجاء. لتبذل الذي هو أدنى في سبيل الذي هو خير؛ ولترتفع على ذاتها متطوعة لا مجبرة، ولتحس بالعطف الإلهي الذي يعرف مواضع ضعفها، ويعترف بمشقة ما كتب عليها، ويعذرها ويقدرها؛ ويحدو لها بالتسامي والتطلع والرجاء.
وهكذا يربي الإسلام الفطرة، فلا تمل التكليف، ولا تجزع عند الصدمة الأولى، ولا تخور عند المشقة البادية، ولا تخجل وتتهاوى عند انكشاف ضعفها أمام الشدة. ولكن تثبت وهي تعلم أن الله يعذرها ويمدها بعونه ويقويها. وتصمم على المضي في وجه المحنة، فقد يكمن فيها الخير بعد الضر، واليسر بعد العسر، والراحة الكبرى بعد الضنى والعناء. ولا تتهالك على ما تحب وتلتذ. فقد تكون الحسرة كامنة وراء المتعة! وقد يكون المكروه مختبئاً خلف المحبوب. وقد يكون الهلاك متربصاً وراء المطمع البراق.
إنه منهج في التربية عجيب. منهج عميق بسيط. منهج يعرف طريقه إلى مسارب النفس الإنسانية وحناياها ودروبها الكثيرة. بالحق وبالصدق. لا بالإيحاء الكاذب، والتمويه الخادع.. فهو حق أن تكره النفس الإنسانية القاصرة الضعيفة أمراً ويكون فيه الخير كل الخير. وهو حق كذلك أن تحب النفس أمراً وتتهالك عليه. وفيه الشر كل الشر. وهو الحق كل الحق أن الله يعلم والناس لا يعلمون! وماذا يعلم الناس من أمر العواقب؟ وماذا يعلم الناس مما وراء الستر المسدل؟ وماذا يعلم الناس من الحقائق التي لا تخضع للهوى والجهل والقصور؟!
إن هذه اللمسة الربانية للقلب البشري لتفتح أمامه عالماً آخر غير العالم المحدود الذي تبصره عيناه. وتبرز أمامه عوامل أخرى تعمل في صميم الكون، وتقلب الأمور، وترتب العواقب على غير ما كان يظنه ويتمناه. وإنها لتتركه حين يستجيب لها طيعاً في يد القدر، يعمل ويرجو ويطمع ويخاف، ولكن يرد الأمر كله لليد الحكيمة والعلم الشامل، وهو راض قرير.. إنه الدخول في السلم من بابه الواسع.. فما تستشعر النفس حقيقة السلام إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله.. وأن الخير في طاعة الله دون محاولة منها أن تجرب ربها وأن تطلب منه البرهان! إن الإذعان الواثق والرجاء الهادئ والسعي المطمئن.. هي أبواب السلم الذي يدعو الله عباده الذين آمنوا ليدخلوا فيه كافة.. وهو يقودهم إليه بهذا المنهج العجيب العميق البسيط. في يسر وفي هوادة وفي رخاء. يقودهم بهذا المنهج إلى السلم حتى وهو يكلفهم فريضة القتال. فالسلم الحقيقي هو سلم الروح والضمير حتى في ساحة القتال.
وإن هذا الإيحاء الذي يحمله ذلك النص القرآني، لا يقف عند حد القتال، فالقتال ليس إلا مثلاً لما تكرهه النفس، ويكون من ورائه الخير.. إن هذا الإيحاء ينطلق في حياة المؤمن كلها. ويلقي ظلاله على أحداث الحياة جميعها.. إن الإنسان لا يدري أين يكون الخير وأين يكون الشر.. لقد كان المؤمنون الذين خرجوا يوم بدر يطلبون عير قريش وتجارتها، ويرجون أن تكون الفئة التي وعدهم الله إياها هي فئة العير والتجارة.
لا فئة الحامية المقاتلة من قريش. ولكن الله جعل القافلة تفلت، ولقاهم المقاتلة من قريش! وكان النصر الذي دوّى في الجزيرة العربية ورفع راية الإسلام. فأين تكون القافلة من هذا الخير الضخم الذي أراده الله للمسلمين! وأين يكون اختيار المسلمين لأنفسهم من اختيار الله لهم؟ والله يعلم والناس لا يعلمون!
ولقد نسي فتى موسى ما كانا قد أعداه لطعامهما- وهو الحوت- فتسرب في البحر عند الصخرة. {فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً. قال: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً.. قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصاً. فوجدا عبداً من عبادنا...} وكان هذا هو الذي خرج له موسى. ولو لم يقع حادث الحوت ما ارتدا. ولفاتهما ما خرجا لأجله في الرحلة كلها!
وكل إنسان- في تجاربه الخاصة- يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائها الخير العميم. ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم. وكم من مطلوب كاد الإنسان يذهب نفسه حسرات على فوته؛ ثم تبين له بعد فترة أنه كان إنقاذاً من الله أن فوت عليه هذا المطلوب في حينه. وكم من محنة تجرعها الإنسان لاهثاً يكاد يتقطع لفظاعتها. ثم ينظر بعد فترة فإذا هي تنشئ له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل.
إن الإنسان لا يعلم. والله وحده يعلم. فماذا على الإنسان لو يستسلم؟
إن هذا هو المنهج التربوي الذي يأخذ القرآن به النفس البشرية. لتؤمن وتسلم وتستسلم في أمر الغيب المخبوء، بعد أن تعمل ما تستطيع في محيط السعي المكشوف..
ومن قيادة الجماعة إلى السلم كانت الفتوى التالية في أمر القتال في الشهر الحرام:
{يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه؟ قل: قتال فيه كبير. وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام؛ وإخراج أهله منه أكبر عند الله؛ والفتنة أكبر من القتل، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا، ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة. وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم}..
وقد جاء في روايات متعددة أنها نزلت في سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه مع ثمانية من المهاجرين ليس فيهم أحد من الأنصار ومعه كتاب مغلق وكلفه ألا يفتحه حتى يمضي ليلتين. فلما فتحه وجد به: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بطن نخلة- بين مكة والطائف- ترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم.. ولا تكرهن أحداً على المسير معك من أصحابك».
- وكان هذا قبل غزوة بدر الكبرى. فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: سمعاً وطاعة. ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى بطن نخلة أرصد بها قريشاً حتى آتيه منها بخبر. وقد نهى أن استكره أحداً منكم. فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع، فأنا ماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف أحد منهم. فسلك الطريق على الحجاز حتى إذا كان ببعض الطريق ضل بعير لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان- رضي الله عنهما- فتخلفا عن رهط عبد الله بن جحش ليبحثا عن البعير ومضى الستة الباقون. حتى إذا كانت السرية ببطن نخلة مرت عير لقريش تحمل تجارة، فيها عمرو بن الحضرمي وثلاثة آخرون، فقتلت السرية عمراً ابن الحضرمي وأسرت اثنين وفر الرابع وغنمت العير. وكانت تحسب أنها في اليوم الأخير من جمادى الآخرة. فإذا هي في اليوم الأول من رجب- وقد دخلت الأشهر الحرم- التي تعظمها العرب. وقد عظمها الإسلام وأقر حرمتها.. فلما قدمت السرية بالعير والأسيرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام». فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا؛ وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا. وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال. وقالت اليهود تفاءلوا بذلك على محمد.. عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله.. عمرو عمرت الحرب. والحضرمي: حضرت الحرب. وواقد بن عبد الله: وقدت الحرب!.
وانطلقت الدعاية المضللة على هذا النحو بشتى الأساليب الماكرة التي تروج في البيئة العربية، وتظهر محمداً وأصحابه بمظهر المعتدي الذي يدوس مقدسات العرب، وينكر مقدساته هو كذلك عند بروز المصلحة! حتى نزلت هذه النصوص القرآنية. فقطعت كل قول. وفصلت في الموقف بالحق. فقبض الرسول صلى الله عليه وسلم الأسيرين والغنيمة.
{يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه؟ قل قتال فيه كبير}..
نزلت تقرر حرمة الشهر الحرام، وتقرر أن القتال فيه كبيرة نعم! ولكن:
{وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله. والفتنة أكبر من القتل}..
إن المسلمين لم يبدأوا القتال، ولم يبدأوا العدوان.
إنما هم المشركون. هم الذين وقع منهم الصد عن سبيل الله، والكفر به وبالمسجد الحرام، لقد صنعوا كل كبيرة لصد الناس عن سبيل الله. ولقد كفروا بالله وجعلوا الناس يكفرون. ولقد كفروا بالمسجد الحرام. انتهكوا حرمته؛ فآذوا المسلمين فيه، وفتنوهم عن دينهم طوال ثلاثة عشر عاماً قبل الهجرة. وأخرجوا أهله منه وهو الحرم الذي جعله الله آمناً، فلم يأخذوا بحرمته ولم يحترموا قدسيته..
وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام.. وفتنة الناس عن دينهم أكبر عند الله من القتل. وقد ارتكب المشركون هاتين الكبيرتين فسقطت حجتهم في التحرز بحرمة البيت الحرام وحرمة الشهر الحرام. ووضح موقف المسلمين في دفع هؤلاء المعتدين على الحرمات؛ الذين يتخذون منها ستاراً حين يريدون، وينتهكون قداستها حين يريدون! وكان على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم، لأنهم عادون باغون أشرار، لا يرقبون حرمة، ولا يتحرجون أمام قداسة. وكان على المسلمين ألا يدعوهم يحتمون بستار زائف من الحرمات التي لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة!
لقد كانت كلمة حق يراد بها باطل. وكان التلويح بحرمة الشهر الحرام مجرد ستار يحتمون خلفه، لتشويه موقف الجماعة المسلمة، وإظهارها بمظهر المعتدي.. وهم المعتدون ابتداء. وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء.
إن الإسلام منهج واقعي للحياة. لا يقوم على مثاليات خيالية جامدة في قوالب نظرية. إنه يواجه الحياة البشرية- كما هي- بعوائقها وجواذبها وملابساتها الواقعية. يواجهها ليقودها قيادة واقعية إلى السير وإلى الارتقاء في آن واحد. يواجهها بحلول عملية تكافئ واقعياتها، ولا ترفرف في خيال حالم، ورؤى مجنحة: لا تجدي على واقع الحياة شيئاً!
هؤلاء قوم طغاة بغاة معتدون. لا يقيمون للمقدسات وزناً، ولا يتحرجون أمام الحرمات، ويدوسون كل ما تواضع المجتمع على احترامه من خلق ودين وعقيدة. يقفون دون الحق فيصدون الناس عنه، ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء، ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام!.. ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام، ويقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الحرمات والمقدسات، ويرفعون أصواتهم: انظروا ها هو ذا محمد ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام!
فكيف يواجههم الإسلام؟ يواجههم بحلول مثالية نظرية طائرة؟ إنه إن يفعل يجرد المسلمين الأخيار من السلاح، بينما خصومهم البغاة الأشرار يستخدمون كل سلاح، ولا يتورعون عن سلاح..! كلا إن الإسلام لا يصنع هذا، لأنه يريد مواجهة الواقع، لدفعه ورفعه. يريد أن يزيل البغي والشر، وأن يقلم أظافر الباطل والضلال. ويريد أن يسلم الأرض للقوة الخيرة، ويسلم القيادة للجماعة الطيبة. ومن ثم لا يجعل الحرمات متاريس يقف خلفها المفسدون البغاة الطغاة ليرموا الطيبين الصالحين البناة، وهم في مأمن من رد الهجمات ومن نبل الرماة!
إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه.
ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات، ويؤذون الطيبين، ويقتلون الصالحين، ويفتنون المؤمنين، ويرتكبون كل منكر وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان!
وهو يمضي في هذا المبدأ على اطراد.. إنه يحرم الغيبة.. ولكن لا غيبة لفاسق.. فالفاسق الذي يشتهر بفسقه لا حرمة له يعف عنها الذين يكتوون بفسقه. وهو يحرم الجهر بالسوء من القول. ولكنه يستثني {إلا من ظلم}.. فله أن يجهر في حق ظالمه بالسوء من القول، لأنه حق. ولأن السكوت عن الجهر به يطمع الظالم في الاحتماء بالمبدأ الكريم الذي لا يستحقه!
ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع لا يتدنى إلا مستوى الأشرار البغاة. ولا إلى أسلحتهم الخبيثة ووسائلهم الخسيسة.. إنه فقط يدفع الجماعة المسلمة إلى الضرب على أيديهم، وإلى قتالهم وقتلهم، وإلى تطهير جو الحياة منهم.. هكذا جهرة وفي وضح النهار..
وحين تكون القيادة في الأيدي النظيفة الطيبة المؤمنة المستقيمة، وحين يتطهر وجه الأرض ممن ينتهكون الحرمات ويدوسون المقدسات.. حينئذ تصان للمقدسات حرمتها كاملة كما أرادها الله.
هذا هو الإسلام.. صريحاً واضحاً قوياً دامغاً، لا يلف ولا يدور؛ ولا يدع الفرصة كذلك لمن يريد أن يلف من حوله وأن يدور.
وهذا هو القرآن يقف المسلمين على أرض صلبة، لا تتأرجح فيها أقدامهم، وهم يمضون في سبيل الله، لتطهير الأرض من الشر والفساد، ولا يدع ضمائرهم قلقة متحرجة تأكلها الهواجس وتؤذيها الوساوس.. هذا شر وفساد وبغي وباطل.. فلا حرمة له إذن، ولا يجوز أن يتترس بالحرمات، ليضرب من ورائها الحرمات! وعلى المسلمين أن يمضوا في طريقهم في يقين وثقة؛ في سلام مع ضمائرهم، وفي سلام من الله..
ويمضي السياق بعد بيان هذه الحقيقة، وتمكين هذه القاعدة، وإقرار قلوب المسلمين وأقدامهم.. يمضي فيكشف لهم عن عمق الشر في نفوس أعدائهم، وأصالة العدوان في نيتهم وخطتهم:
{ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}..
وهذا التقرير الصادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر؛ وعلى فتنة المسلمين عن دينهم؛ بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم. وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة المسلمة في كل أرض وفي كل جيل.. إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين؛ ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم. فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل، ويرهبه كل باغ، ويكرهه كل مفسد. إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج، ومن منهج قويم، ومن نظام سليم.. إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد. ومن ثم لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون. ومن ثم يرصدون لأهله ليفتنوهم عنه، ويردوهم كفاراً في صورة من صور الكفر الكثيرة.
ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم، وفي الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين، وتتبع هذا المنهج، وتعيش بهذا النظام.
وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته، ولكن الهدف يظل ثابتاً.. أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا. وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحاً غيره، وكلما كلت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها.. والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام، وينبهها إلى الخطر؛ ويدعوها إلى الصبر على الكيد، والصبر على الحرب، وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة؛ والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مبرر:
{ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر، فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيه خالدون}..
والحبوط مأخوذ من حبطت الناقة إذا رعت مرعى خبيثاً فانتفخت ثم نفقت.. والقرآن يعبر بهذا عن حبوط العمل، فيتطابق المدلول الحسي والمدلول المعنوي.. يتطابق تضخم العمل الباطل وانتفاخ مظهره، وهلاكه في النهاية وبواره.. مع تضخم حجم الناقة وانتفاخها ثم هلاكها في النهاية بهذا الانتفاخ!
ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وعرفه؛ تحت مطارق الأذى والفتنة- مهما بلغت- هذا مصيره الذي قرره الله له.. حبوط العمل في الدنيا والآخرة. ثم ملازمة العذاب في النار خلوداً.
إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه، لا يمكن أن يرتد عنه ارتداداً حقيقياً أبداً. إلا إذا فسد فساداً لا صلاح له. وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة. فالله رحيم. رخص للمسلم- حين يتجاوز العذاب طاقته- أن يقي نفسه بالتظاهر، مع بقاء قلبه ثابتاً على الإسلام مطمئناً بالإيمان. ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي، وفي الارتداد الحقيقي، بحيث يموت وهو كافر.. والعياذ بالله..
وهذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان.. ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه، ويرتد عن إيمانه وإسلامه، ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه.. وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله. والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به، ويصبرون على الأذى في سبيله. فهو معوضهم خيراً: إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.
وهناك رحمته التي يرجوها من يؤذون في سبيله؛ لا ييئس منها مؤمن عامر القلب بالإيمان:
{إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله، والله غفور رحيم}..
ورجاء المؤمن في رحمة الله لا يخيبه الله أبداً.. ولقد سمع أولئك النفر المخلص من المؤمنين المهاجرين هذا الوعد الحق، فجاهدوا وصبروا، حتى حقق الله لهم وعده بالنصر أو الشهادة. وكلاهما خير. وكلاهما رحمة. وفازوا بمغفرة الله ورحمته: {والله غفور رحيم}..
وهو هو طريق المؤمنين.
ثم يمضي السياق، يبين للمسلمين حكم الخمر والقمار.. وكلتاهما لذة من اللذائذ التي كان العرب غارقين فيها. يوم أن لم تكن لهم اهتمامات عليا ينفقون فيها نشاطهم، وتستغرق مشاعرهم وأوقاتهم:
{يسألونك عن الخمر والميسر. قل: فيهما اثم كبير ومنافع للناس. وإثمهما أكبر من نفعهما}..
وإلى ذلك الوقت لم يكن قد نزل تحريم الخمر والميسر. ولكن نصاً في القرآن كله لم يرد بحلهما. إنما كان الله يأخذ بيد هذه الجماعة الناشئة خطوة خطوة في الطريق الذي أراده لها، ويصنعها على عينه للدور الذي قدره لها. وهذا الدور العظيم لا تتلاءم معه تلك المضيعة في الخمر والميسر، ولا تناسبه بعثرة العمر، وبعثرة الوعي، وبعثرة الجهد في عبث الفارغين، الذين لا تشغلهم إلا لذائذ أنفسهم، أو الذين يطاردهم الفراغ والخواء فيغرقونه في السكر بالخمر والانشغال بالميسر؛ أو الذين تطاردهم أنفسهم فيهربون منها في الخمار والقمار؛ كما يفعل كل من يعيش في الجاهلية. أمس واليوم وغداً! إلا أن الإسلام على منهجه في تربية النفس البشرية كان يسير على هينة وفي يسر وفي تؤدة..
وهذا النص الذي بين أيدينا كان أول خطوة من خطوات التحريم. فالأشياء والأعمال قد لا تكون شراً خالصاً. فالخير يتلبس بالشر، والشر يتلبس بالخير في هذه الأرض. ولكن مدار الحل والحرمة هو غلبة الخير أو غلبة الشر. فإذا كان الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع، فتلك علة تحريم ومنع. وإن لم يصرح هنا بالتحريم والمنع.
هنا يبدو لنا طرف من منهج التربية الإسلامي القرآني الرباني الحكيم. وهو المنهج الذي يمكن استقراؤه في الكثير من شرائعه وفرائضه وتوجيهاته. ونحن نشير إلى قاعدة من قواعد هذا المنهج بمناسبة الحديث عن الخمر والميسر.
عندما يتعلق الأمر أو النهي بقاعدة من قواعد التصور الإيماني، أي بمسألة اعتقادية، فإن الإسلام يقضي فيها قضاء حاسماً منذ اللحظة الأولى.
ولكن عندما يتعلق الأمر أو النهي بعادة وتقليد، أو بوضع اجتماعي معقد، فإن الإسلام يتريث به ويأخذ المسألة باليسر والرفق والتدرج، ويهيِّئ الظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة.
فعندما كانت المسألة مسألة التوحيد أو الشرك: أمضى أمره منذ اللحظة الأولى. في ضربة حازمة جازمة. لا تردد فيها ولا تلفت، ولا مجاملة فيها ولا مساومة، ولا لقاء في منتصف الطريق. لأن المسألة هنا مسألة قاعدة أساسية للتصور، لا يصلح بدونها إيمان ولا يقام إسلام.
فأما في الخمر والميسر فقد كان الأمر أمر عادة وإلف. والعادة تحتاج إلى علاج.. فبدأ بتحريك الوجدان الديني والمنطق التشريعي في نفوس المسلمين، بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع. وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى.. ثم جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون}
والصلاة في خمسة أوقات، معظمها متقارب، لا يكفي ما بينها للسكر والإفاقة! وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب، وكسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي؛ إذ المعروف أن المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدر في الموعد الذي اعتاد تناوله. فإذا تجاوز هذا الوقت وتكرر هذا التجاوز فترت حدة العادة وأمكن التغلب عليها.. حتى إذا تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الحازم الأخير بتحريم الخمر والميسر: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} وأما في الرق مثلاً، فقد كان الأمر أمر وضع اجتماعي اقتصادي، وأمر عرف دولي وعالمي في استرقاق الأسرى وفي استخدام الرقيق، والأوضاع الاجتماعية المعقدة تحتاج إلى تعديل شامل لمقوماتها وارتباطاتها قبل تعديل ظواهرها وآثارها. والعرف الدولي يحتاج إلى اتفاقات دولية ومعاهدات جماعية.. ولم يأمر الإسلام بالرق قط، ولم يرد في القرآن نص على استرقاق الأسرى. ولكنه جاء فوجد الرق نظاماً عالمياً يقوم عليه الاقتصاد العالمي. ووجد استرقاق الأسرى عرفاً دولياً يأخذ به المحاربون جميعاً.. فلم يكن بد أن يتريث في علاج الوضع الاجتماعي القائم والنظام الدولي الشامل.
وقد اختار الإسلام أن يجفف منابع الرق وموارده حتى ينتهي بهذا النظام كله- مع الزمن- إلا الإلغاء، دون إحداث هزة إجتماعية لا يمكن ضبطها ولا قيادتها. وذلك مع العناية بتوفير ضمانات الحياة المناسبة للرقيق، وضمان الكرامة الإنسانية في حدود واسعة.
بدأ بتجفيف موارد الرق فيما عدا أسرى الحرب الشرعية ونسل الأرقاء.. ذلك أن المجتمعات المعادية للإسلام كانت تسترق أسرى المسلمين حسب العرف السائد في ذلك الزمان. وما كان الإسلام يومئذ قادراً على أن يجبر المجتمعات المعادية على مخالفة ذلك العرف السائد، الذي تقوم عليه قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي في أنحاء الأرض. ولو أنه قرر إبطال استرقاق الأسرى لكان هذا إجراء مقصوراً على الأسرى الذين يقعون في أيدي المسلمين، بينما الأسارى المسلمون يلاقون مصيرهم السييء في عالم الرق هناك. وفي هذا إطماع لأعداء الإسلام في أهل الإسلام.. ولو أنه قرر تحرير نسل الأرقاء الموجود فعلاً قبل أن ينظم الأوضاع الاقتصادية للدولة المسلمة ولجميع من تضمهم لترك هؤلاء الأرقاء بلا مورد رزق ولا كافل ولا عائل، ولا أواصر قربى تعصمهم من الفقر والسقوط الخلقي الذي يفسد حياة المجتمع الناشئ.. لهذه الأوضاع القائمة العميقة الجذور لم ينص القرآن على استرقاق الأسرى، بل قال: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق. فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها} ولكنه كذلك لم ينص على عدم استرقاقهم. وترك الدولة المسلمة تعامل أسراها حسب ما تقتضيه طبيعة موقفها. فتفادي من تفادي من الأسرى من الجانبين، وتتبادل الأسرى من الفريقين، وتسترق من تسترق وفق الملابسات الواقعية في التعامل مع أعدائها المحاربين.
وبتجفيف موارد الرق الأخرى- وكانت كثيرة جداً ومتنوعة- يقل العدد.. وهذا العدد القليل أخذ الإسلام يعمل على تحريره بمجرد أن ينضم إلى الجماعة المسلمة ويقطع صلته بالمعسكرات المعادية. فجعل للرقيق حقه كاملاً في طلب الحرية بدفع فدية عنه يكاتب عليها سيده. ومنذ هذه اللحظة التي يريد فيها الحرية يملك حرية العمل وحرية الكسب والتملك، فيصبح أجر عمله له، وله أن يعمل في غير خدمة سيده ليحصل على فديته- أي إنه يصبح كياناً مستقلاً ويحصل على أهم مقومات الحرية فعلاً- ثم يصبح له نصيبه من بيت مال المسلمين في الزكاة. والمسلمون مكلفون بعد هذا أن يساعدوه بالمال على استرداد حريته.. وذلك كله غير الكفارات التي تقتضي عتق رقبة. كبعض حالات القتل الخطأ، وفدية اليمين، وكفارة الظهار.. وبذلك ينتهي وضع الرق نهاية طبيعية مع الزمن، لأن إلغاءه دفعة واحدة كان يؤدي إلى هزة لا ضرورة، لها وإلى فساد في المجتمع أمكن اتقاؤه.
فأما تكاثر الرقيق في المجتمع الإسلامي بعد ذلك؛ فقد نشأ من الانحراف عن المنهج الإسلامي، شيئاً فشيئاً. وهذه حقيقة.. ولكن مباديء الإسلام ليست هي المسؤولة عنه.. ولا يحسب ذلك على الإسلام الذي لم يطبق تطبيقاً صحيحاً في بعض العهود لانحراف الناس عن منهجه، قليلاً أو كثيراً.. ووفق النظرية الإسلامية التاريخية التي أسلفنا.. لا تعد الأوضاع التي نشأت عن هذا الانحراف أوضاعاً إسلامية، ولا تعد حلقات في تاريخ الإسلام كذلك. فالإسلام لم يتغير. ولم تضف إلى مبادئه مبادئ جديدة. إنما الذي تغير هم الناس. وقد بعدوا عنه فلم يعد له علاقة بهم. ولم يعودوا هم حلقة من تاريخه.
وإذا أراد أحد أن يستأنف حياة إسلامية، فهو لا يستأنفها من حيث انتهت الجموع المنتسبة إلى الإسلام على مدى التاريخ. إنما يستأنفها من حيث يستمد استمداداً مباشراً من أصول الإسلام الصحيحة..
وهذه الحقيقة مهمة جداً. سواء من وجهة التحقيق النظري، أو النمو الحركي، للعقيدة الإسلامية وللمنهج الإسلامي. ونحن نؤكدها للمرة الثانية في هذا الجزء بهذه المناسبة، لما نراه من شدة الضلال والخطأ في تصور النظرية التاريخية الإسلامية، وفي فهم الواقع التاريخي الإسلامي. ومن شدة الضلال والخطأ في تصور الحياة الإسلامية الحقيقية والحركة الإسلامية الصحيحة. وبخاصة في دراسة المستشرقين للتاريخ الإسلامي. ومن يتأثرون بمنهج المستشرقين الخاطئ في فهم هذا التاريخ! وفيهم بعض المخلصين المخدوعين!
ثم نمضي مع السياق في تقرير المباديء الإسلامية في مواجهة الأسئلة الاستفهامية:
{ويسألونك ماذا ينفقون؟ قل العفو. كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة}..
لقد سألوا مرة: ماذا ينفقون؟ فكان الجواب عن النوع والجهة. فأما هنا فجاء الجواب عن المقدار والدرجة.. والعفو: الفضل والزيادة.
فكل ما زاد على النفقة الشخصية- في غير ترف ولا مخيلة- فهو محل للإنفاق. الأقرب فالأقرب. ثم الآخرون على ما أسلفنا.. والزكاة وحدها لا تجزئ. فهذا النص لم تنسخه آية الزكاة ولم تخصصه فيما أرى: فالزكاة لا تبرئ الذمة إلا بإسقاط الفريضة. ويبقى التوجيه إلى الإنفاق قائماً. إن الزكاة هي حق بيت مال المسلمين تجبيها الحكومة التي تنفذ شريعة الله، وتنفقها في مصارفها المعلومة، ولكن يبقى بعد ذلك واجب المسلم لله ولعباد الله. والزكاة قد لا تستغرق الفضل كله، والفضل كله محل للإنفاق بهذا النص الواضح؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام: «في المال حق سوى الزكاة». حق قد يؤديه صاحبه ابتغاء مرضاة الله- وهذا هو الأكمل والأجمل- فإن لم يفعل واحتاجت إليه الدولة المسلمة التي تنفذ شريعة الله، أخذته فأنفقته فيما يصلح الجماعة المسلمة. كي لا يضيع في الترف المفسد. أو يقبض عن التعامل ويخزن ويعطل.
{كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة}..
فهذا البيان لاستجاشة التفكر والتدبر في أمر الدنيا والآخرة. فالتفكر في الدنيا وحدها لا يعطي العقل البشري ولا القلب الإنساني صورة كاملة عن حقيقة الوجود الإنساني. وحقيقة الحياة وتكاليفها وارتباطاتها. ولا ينشئ تصوراً صحيحاً للأوضاع والقيم والموازين. فالدنيا شطر الحياة الأدنى والأقصر. وبناء الشعور والسلوك على حساب الشطر القصير لا ينتهي أبداً إلى تصور صحيح ولا إلى سلوك صحيح.. ومسألة الإنفاق بالذات في حاجة إلى حساب الدنيا والآخرة. فما ينقص من مال المرء بالإنفاق يرد عليها طهارة لقلبه، وزكاة لمشاعره. كما يرد عليه صلاحاً للمجتمع الذي يعيش فيه ووئاماً وسلاماً. ولكن هذا كله قد لا يكون ملحوظاً لكل فرد. وحينئذ يكون الشعور بالآخرة وما فيها من جزاء، وما فيها من قيم وموازين، مرجحاً لكفة الإنفاق، تطمئن إليه النفس، وتسكن له وتستريح. ويعتدل الميزان في يدها فلا يرجح بقيمة زائفة ذات لألاء وبريق.
{ويسألونك عن اليتامى؟ قل: إصلاح لهم خير. وأن تخالطوهم فإخوانكم. والله يعلم المفسد من المصلح. ولو شاء الله لأعنتكم. إن الله عزيز حكيم}..
إن التكافل الاجتماعي هو قاعدة المجتمع الإسلامي. والجماعة المسلمة مكلفة أن ترعى مصالح الضعفاء فيها. واليتامى بفقدهم آباءهم وهم صغار ضعاف أولى برعاية الجماعة وحمايتها. رعايتها لنفوسهم وحمايتها لأموالهم. ولقد كان بعض الأوصياء يخلطون طعام اليتامى بطعامهم. وأموالهم بأموالهم للتجارة فيها جميعاً؛ وكان الغبن يقع أحياناً على اليتامى. فنزلت الآيات في التخويف من أكل أموال الأيتام. عندئذ تحرج الأتقياء حتى عزلوا طعام اليتامى من طعامهم. فكان الرجل يكون في حجره اليتيم. يقدم له الطعام من ماله. فإذا فضل منه شيء بقي له حتى يعاود أكله أو يفسد فيطرح! وهذا تشدد ليس من طبيعة الإسلام.
فوق ما فيه من الغرم أحياناً على اليتيم. فعاد القرآن يرد المسلمين إلى الاعتدال واليسر في تناول الأمور؛ وإلى تحري خير اليتيم والتصرف في حدود مصلحته. فالإصلاح لليتامى خير من اعتزالهم. والمخالطة لا حرج فيها إذا حققت الخير لليتيم فاليتامى أخوان للأوصياء. كلهم أخوة في الإسلام. أعضاء في الأسرة المسلمة الكبيرة. والله يعلم المفسد من المصلح، فليس المعول عليه هو ظاهر العمل وشكله. ولكن نيته وثمرته. والله لا يريد إحراج المسلمين وإعناتهم والمشقة عليهم فيما يكلفهم. ولو شاء الله لكلفهم هذا العنت. ولكنه لا يريد. وهو العزيز الحكيم. فهو قادر على ما يريد. ولكنه حكيم لا يريد إلا الخير واليسر والصلاح.
وهكذا يربط الأمر كله بالله؛ ويشده إلى المحور الأصيل التي تدور عليه العقيدة، وتدور عليه الحياة.. وهذه هي ميزة التشريع الذي يقوم على العقيدة. فضمانة التنفيذ للتشريع لا تجيء أبداً من الخارج، إن لم تنبثق وتتعمق في أغوار الضمير..


نحن في هذا الدرس مع جانب من دستور الأسرة. جانب من التنظيم للقاعدة الركينة التي تقوم عليها الجماعة المسلمة، ويقوم عليها المجتمع الإسلامي. هذه القاعدة التي أحاطها الإسلام برعاية ملحوظة، واستغرق تنظيمها وحمايتها وتطهيرها من فوضى الجاهلية جهداً كبيراً، نراه متناثراً في سور شتى من القرآن، محيطاً بكل المقوّمات اللازمة لإقامة هذه القاعدة الأساسية الكبرى.
إن النظام الاجتماعي الإسلامي نظام أسرة- بما أنه نظام رباني للإنسان، ملحوظ فيه كل خصائص الفطرة الإنسانية وحاجاتها ومقوماتها.
وينبثق نظام الأسرة في الإسلام من معين الفطرة وأصل الخلقة، وقاعدة التكوين الأولي للأحياء جميعاً وللمخلوقات كافة.. تبدو هذه النظرة واضحة في قوله تعالى: {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} ومن قوله سبحانه: {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون} ثم تتدرج النظرة الإسلامية للإنسان فتذكر النفس الأولى التي كان منها الزوجان، ثم الذرية، ثم البشرية جميعاً: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام. إن الله كان عليكم رقيباً} {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} ثم تكشف عن جاذبية الفطرة بين الجنسين، لا لتجمع بين مطلق الذكران ومطلق الإناث، ولكن لتتجه إلى إقامة الأسر والبيوت: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقو الله واعلموا أنكم ملاقوه. وبشر المؤمنين}.. {والله جعل لكم من بيوتكم سكناً} فهي الفطرة تعمل، وهي الأسرة تلبي هذه الفطرة. العميقة في أصل الكون وفي بنية الإنسان. ومن ثم كان نظام الأسرة في الإسلام هو النظام الطبيعي الفطري المنبثق من أصل التكوين الإنساني. بل من أصل تكوين الأشياء كلها في الكون. على طريقة الإسلام في ربط النظام الذي يقيمه للإنسان بالنظام الذي أقامه الله للكون كله ومن بينه هذا الإنسان..
والأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الفراخ الناشئة ورعايتها؛ وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها؛ وفي ظله تتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل، وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة؛ وعلى هديه ونوره تتفتح للحياة، وتفسر الحياة، وتتعامل مع الحياة.
والطفل الإنساني هو أطول الأحياء طفولة. تمتد طفولته أكثر من أي طفل آخر للأحياء الأخرى. ذلك أن مرحلة الطفولة هي فترة إعداد وتهيؤ وتدريب للدور المطلوب من كل حي باقي حياته. ولما كانت وظيفة الإنسان هي أكبر وظيفة، ودوره في الأرض هو أضخم دور.. امتدت طفولته فترة أطول، ليحسن إعداده وتدريبه للمستقبل.
ومن ثم كانت حاجته لملازمة أبويه أشد من حاجة أي طفل لحيوان آخر. وكانت الأسرة المستقرة الهادئة ألزم للنظام الإنساني، وألصق بفطرة الإنسان وتكوينه ودوره في هذه الحياة.
وقد أثبتت التجارب العملية أن أي جهاز آخر غير جهاز الأسرة لا يعوض عنها، ولا يقوم مقامها، بل لا يخلو من أضرار مفسدة لتكوين الطفل وتربيته، وبخاصة نظام المحاضن الجماعية التي أرادت بعض المذاهب المصطنعة المتعسفة أن تستعيض بها عن نظام الأسرة في ثورتها الجامحة الشاردة المتعسفة ضد النظام الفطري الصالح القويم الذي جعله الله للإنسان. أو التي اضطرت بعض الدول الأوربية اضطراراً لإقامتها بسبب فقدان عدد كبير من الأطفال لأهليهم في الحرب الوحشية المتبربرة التي تخوضها الجاهلية الغربية المنطلقة من قيود التصور الديني، والتي لا تفرق بين المسالمين والمحاربين في هذه الأيام! أو التي اضطروا إليها بسبب النظام المشؤوم الذي يضطر الأمهات إلى العمل، تحت تأثير التصورات الجاهلية الشائهة للنظام الاجتماعي والاقتصادي المناسب للإنسان. هذه اللعنة التي تحرم الأطفال حنان الأمهات ورعايتهن في ظل الأسرة، لتقذف بهؤلاء المساكين إلى المحاضن، التي يصطدم نظامها بفطرة الطفل وتكوينه النفسي، فيملأ نفسه بالعقد والاضطرابات.. وأعجب العجب أن انحراف التصورات الجاهلية ينتهي بناس من المعاصرين إلى أن يعتبروا نظام العمل للمرأة تقدماً وتحرراً وانطلاقاً من الرجعية! وهو هو هذا النظام الملعون، الذي يضحي بالصحة النفسية لأغلى ذخيرة على وجه الأرض.. الأطفال.. رصيد المستقبل البشري.. وفي مقابل ماذا؟ في مقابل زيادة في دخل الأسرة. أو في مقابل إعالة الأم، التي بلغ من جحود الجاهلية الغربية والشرقية المعاصرة وفساد نظمها الاجتماعية والاقتصادية أن تنكل عن إعالة المرأة التي لا تنفق جهدها في العمل، بدل أن تنفقه في رعاية أعز رصيد إنساني وأغلى ذخيرة على وجه هذه الأرض.
ومن ثم نجد النظام الاجتماعي الإسلامي، الذي أراد الله به أن يدخل المسلمون في السلم، وأن يستمتعوا في ظله بالسلام الشامل.. يقوم على أساس الأسرة، ويبذل لها من العناية ما يتفق مع دورها الخطير.. ومن ثم نجد في سور شتى من القرآن الكريم تنظيمات قرآنية للجوانب والمقومات التي يقوم عليها هذا النظام. وهذه السورة واحدة منها..
والآيات الواردة في هذه السورة تتناول بعض أحكام الزواج والمعاشرة. والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والمتعة. والرضاعة والحضانة..
ولكن هذه الأحكام لا تذكر مجردة- كما اعتاد الناس أن يجدوها في كتب الفقه والقانون-.. كلا! إنها تجيء في جو يشعر القلب البشري أنه يواجه قاعدة كبرى من قواعد المنهج الإلهي للحياة البشرية؛ وأصلاً كبيراً من أصول العقيدة التي ينبثق منها النظام الإسلامي. وأن هذا الأصل موصول بالله سبحانه مباشرة. موصول بإرادته وحكمته ومشيئته في الناس، ومنهجه لإقامة الحياة على النحو الذي قدره وأراده لبني الإنسان.
ومن ثم فهو موصول بغضبه ورضاه، وعقابه وثوابه، وموصول بالعقيدة وجوداً وعدماً في حقيقة الحال!
ومنذ اللحظة الأولى يشعر الإنسان بخطر هذا الأمر وخطورته؛ كما يشعر أن كل صغيرة وكبيرة فيه تنال عناية الله ورقابته، وأن كل صغيرة وكبيرة فيه مقصودة كذلك قصداً لأمر عظيم في ميزان الله. وأن الله يتولى بذاته- سبحانه- تنظيم حياة هذا الكائن، والإشراف المباشر على تنشئة الجماعة المسلمة تنشئة خاصة تحت عينه، وإعدادها- بهذه النشأة- للدور العظيم الذي قدره لها في الوجود. وأن الاعتداء على هذا المنهج يغضب الله ويستحق منه شديد العقاب.
إن هذه الأحكام تذكر بدقة وتفصيل.. لا يبدأ حكم جديد حتى يكون قد فرغ من الحكم السابق وملابساته. ثم تجيء التعقيبات الموحية بعد كل حكم، وأحياناً في ثنايا الأحكام، منبئة بضخامة هذا الأمر وخطورته، تلاحق الضمير الإنساني ملاحقة موقظة محيية موحية. وبخاصة عند التوجيهات التي يناط تنفيذها بتقوى القلب وحساسية الضمير، لأن الاحتيال على النصوص والأحكام ممكن بغير هذا الوازع الحارس المستيقظ.
الحكم الأول يتضمن النهي عن زواج المسلم بمشركة، وعن تزويج المشرك من مسلمة. والتعقيب: {أولئك يدعون إلى النار، والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه، ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون}..
والحكم الثاني يتعلق بالنهي عن مباشرة النساء في المحيض.. وتتوالى التعليقات في هذا الأمر فترفع أمر المباشرة وأمر العلاقات بين الجنسين عن أن تكون شهوة جسد تقضى في لحظة، إلى أن تكون وظيفة إنسانية ذات أهداف اعلى من تلك اللحظة وأكبر، بل أعلى من أهداف الإنسان الذاتية. فهي تتعلق بإرادة الخالق في تطهير خلقه بعبادته وتقواه: {فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله. إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه. وبشر المؤمنين}..
والحكم الثالث حكم الإيمان بصفة عامة- تمهيداً للحديث عن الإيلاء والطلاق- ويربط حكم الإيمان بالله وتقواه، ويجيء التعقيب مرة: {والله سميع عليم}.. ومرة: {والله غفور حليم}.
والحكم الرابع حكم الإيلاء.. والتعقيب: {فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم}..
والحكم الخامس حكم عدة المطلقة وترد فيه تعقيبات شتى: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن. إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر}.. {والله عزيز حكيم}..
والحكم السادس حكم عدد الطلقات. ثم حكم استرداد شيء من المهر والنفقة في حالة الطلاق، وترد فيه التعقيبات التالية: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً، إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} {تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}.
{فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا، إن ظنا أن يقيما حدود الله، وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون}..
والحكم السابع حكم الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان بعد الطلاق. ويرد فيه: {ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا، ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه؛ ولا تتخذوا آيات الله هزوا؛ واذكروا نعمة الله عليكم، وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به؛ واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم}.. {ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر. ذلكم أزكى لكم وأطهر. والله يعلم وأنتم لا تعلمون}..
والحكم الثامن حكم الرضاعة والاسترضاع والأجر. ويعقب على أحكامه المفصلة في كل حالة من حالاته بقوله: {واتقوا الله، واعلموا أن الله بما تعملون بصير}..
والحكم التاسع خاص بعدة المتوفى عنها زوجها. ويعقب عليه بقوله: {فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير}..
والحكم العاشر حكم التعريض بخطبة النساء في أثناء العدة. ويرد فيه: {علم الله أنكم ستذكرونهن. ولكن لا تواعدوهن سراً، إلا أن تقولوا قولاً معروفاً. ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله، واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه، واعلموا أن الله غفور حليم}..
والحكم الحادي عشر حكم المطلقة قبل الدخول في حالة ما إذا فرض لها مهر وفي حالة ما إذا لم يفرض. ويجيء فيه من اللمسات الوجدانية: {وأن تعفوا أقرب للتقوى. ولا تنسوا الفضل بينكم. إن الله بما تعملون بصير}..
والحكم الثاني عشر حكم المتعة للمتوفى عنها زوجها وللمطلقة. ويرد فيه: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين}..
والتعقيب العام على هذه الأحكام: {كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون}..
إنها العبادة.. عبادة الله في الزواج، وعبادته في المباشرة والإنسال. وعبادته في الطلاق والانفصال. وعبادته في العدة والرجعة. وعبادته في النفقة والمتعة. وعبادته في الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان. وعبادته في الافتداء والتعويض. وعبادته في الرضاع والفصال.. عبادة الله في كل حركة وفي كل خطرة.. ومن ثم يجيء- بين هذه الأحكام- حكم الصلاة في الخوف والأمن: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين. فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً، فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون}.. يجيء هذا الحكم في ثنايا تلك الأحكام؛ وقبل أن ينتهي منها السياق. وتندمج عبادة الصلاة في عبادات الحياة، الاندماج الذي ينبثق من طبيعة الإسلام، ومن غاية الوجود الإنساني في التصور الإسلامي. ويبدو السياق موحياً هذا الإيحاء اللطيف.. إن هذه عبادات. وطاعة الله فيها من جنس طاعته في الصلاة. والحياة وحدة والطاعات فيها جملة. والأمر كله من الله. وهو منهج الله للحياة..
والظاهرة الملحوظة في هذه الأحكام أنها في الوقت الذي تمثل العبادة، وتنشئ جو العبادة وتلقي ظلال العبادة.
لا تغفل ملابسة واحدة من ملابسات الحياة الواقعية، وملابسات فطرة الإنسان وتكوينه، وملابسات ضروراته الواقعة في حياته هذه على الأرض.
إن الإسلام يشرع لناس من البشر، لا لجماعة من الملائكة، ولا لأطياف مهومة في الرؤي المجنحة! ومن ثم لا ينسى- وهو يرفعهم إلى جو العبادة بتشريعاته وتوجيهاته- أنهم بشر، وأنها عبادة من بشر.. بشر فيهم ميول ونزعات، وفيهم نقص وضعف، وفيهم ضرورات وانفعالات، ولهم عواطف ومشاعر، وإشراقات وكثافات.. والإسلام يلاحظها كلها؛ ويقودها جملة في طريق العبادة النظيف، إلى مشرق النور الوضيء، في غير ما تعسف ولا اصطناع. ويقيم نظامه كله على أساس أن هذا الإنسان إنسان!
ومن ثم يقرر الإسلام جواز الإيلاء. وهو العزم على الامتناع عن المباشرة فترة من الوقت. ولكن يقيده بألا يزيد على أربعة أشهر. ويقرر الطلاق ويشرّع له، وينظم أحكامه ومخلفاته. في الوقت الذي يبذل كل ذلك الجهد لتوطيد أركان البيت، وتوثيق أواصر الأسرة، ورفع هذه الرابطة إلى مستوى العبادة.. إنه التوازن الذي يجعل مثاليات هذا النظام كلها مثاليات واقعية رفيعة. في طاقة الإنسان. ومقصود بها هذا الإنسان.
إنه التيسير على الفطرة. التيسير الحكيم على الرجل والمرأة على السواء. إذا لم يقدر لتلك المنشأة العظيمة النجاح؛ وإذا لم تستمتع تلك الخلية الأولى بالاستقرار. فالله الخبير البصير، الذي يعلم من أمر الناس ما لا يعلمون، لم يرد أن يجعل هذه الرابطة بين الجنسين قيداً وسجناً لا سبيل إلى الفكاك منه، مهما اختنقت فيه الأنفاس، ونبت فيه الشوك، وغشاه الظلام. لقد أرادها مثابة وسكناً؛ فإذا لم تتحقق هذه الغاية- بسبب ما هو واقع من أمر الفطر والطبائع- فأولى بهما أن يتفرقا؛ وأن يحاولا هذه المحاولة مرة أخرى. وذلك بعد استنفاد جميع الوسائل لإنقاذ هذه المؤسسة الكريمة؛ ومع إيجاد الضمانات التشريعية والشعورية كي لا يضار زوج ولا زوجة ولا رضيع ولا جنين.
وهذا هو النظام الرباني الذي يشرعه الله للإنسان..
وحين يوازن الإنسان بين أسس هذا النظام الذي يريده الله للبشر، والمجتمع النظيف المتوازن الذي يرف فيه السلام وبين ما كان قائماً وقتها في الحياة البشرية يجد النقلة بعيدة بعيدة.. كذلك تحتفظ هذه النقلة بمكانها السامق الرفيع حين يقاس إليها حاضر البشرية اليوم في المجتمعات الجاهلية التي تزعم أنها تقدمية في الغرب وفي الشرق سواء، ويحس مدى الكرامة والنظافة والسلام الذي أراده الله للبشر، وهو يشرع لهم هذا المنهج. وترى المرأة- بصفة خاصة- مدى رعاية الله لها وكرامته.. حتى لأستيقن أنه ما من امرأة سوية تدرك هذه الرعاية الظاهرة في هذا المنهج إلا وينبثق في قلبها حب الله!!!
والأن نواجه النصوص القرآنية بالتفصيل:
{ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم؛ ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا.
ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم. أولئك يدعون إلى النار. والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه؛ ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون}..
النكاح- وهو الزواج- أعمق وأقوى وأدوم رابطة تصل بين اثنين من بني الإنسان؛ وتشمل أوسع الاستجابات التي يتبادلها فردان. فلا بد إذن من توحد القلوب، والتقائها في عقدة لا تحل. ولكي تتوحد القلوب يجب أن يتوحد ما تنعقد عليه، وما تتجه إليه. والعقيدة الدينية هي أعمق وأشمل ما يعمر النفوس، ويؤثر فيها، ويكيف مشاعرها، ويحدد تأثراتها واستجاباتها، ويعين طريقها في الحياة كلها. وإن كان الكثيرون يخدعهم أحيانا كمون العقيدة أو ركودها. فيتوهمون أنها شعور عارض يمكن الاستغناء عنه ببعض الفلسفات الفكرية، أو بعض المذاهب الاجتماعية. وهذا وهم وقلة خبرة بحقيقة النفس الإنسانية، ومقوماتها الحقيقية. وتجاهل لواقع هذه النفس وطبيعتها.
ولقد كانت النشأة الأولى للجماعة المسلمة في مكة لا تسمح في أول الأمر بالانفصال الاجتماعي الكامل الحاسم، كالانفصال الشعوري الاعتقادي الذي تم في نفوس المسلمين، لأن الأوضاع الاجتماعية تحتاج إلى زمن وإلى تنظيمات متريثة. فلما أن أراد الله للجماعة المسلمة أن تستقل في المدينة، وتتميز شخصيتها الاجتماعية كما تميزت شخصيتها الاعتقادية. بدأ التنظيم الجديد يأخذ طريقه، ونزلت هذه الآية. نزلت تحرم إنشاء أي نكاح جديد بين المسلمين والمشركين- فأما ما كان قائماً بالفعل من الزيجات فقد ظل إلى السنة السادسة للهجرة حين نزلت في الحديبية آية سورة الممتحنة: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن. الله أعلم بإيمانهن. فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار. لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} {ولا تمسكوا بعصم الكوافر...} فانتهت آخر الارتباطات بين هؤلاء وهؤلاء.
لقد بات حراماً أن ينكح المسلم مشركة. وأن ينكح المشرك مسلمة. حرام أن يربط الزواج بين قلبين لا يجتمعان على عقيدة. إنه في هذه الحالة رباط زائف واه ضعيف. إنهما لا يلتقيان في الله، ولا تقوم على منهجه عقدة الحياة. والله الذي كرم الإنسان ورفعه على الحيوان يريد لهذه الصلة ألا تكون ميلاً حيوانياً، ولا اندفاعاً شهوانياً. إنما يريد أن يرفعها حتى يصلها بالله في علاه؛ ويربط بينها وبين مشيئته ومنهجه في نمو الحياة وطهارة الحياة.
ومن هنا جاء ذلك النص الحاسم الجازم:
{ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن}..
فإذا آمنّ فقد زالت العقبة الفاصلة؛ وقد التقى القلبان في الله؛ وسلمت الآصرة الإنسانية بين الاثنين مما كان يعّوقها ويفسدها. سلمت تلك الآصرة، وقويت بتلك العقدة الجديدة: عقدة العقيدة.
{ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم}..
فهذا الإعجاب المستمد من الغريزة وحدها، لا تشترك فيه مشاعر الإنسان العليا، ولا يرتفع عن حكم الجوارح والحواس.
وجمال القلب أعمق وأغلى، حتى لو كانت المسلمة أمة غير حرة. فإن نسبها إلى الإسلام يرفعها عن المشركة ذات الحسب. إنه نسب في الله وهو أعلى الأنساب.
{ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا. ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم}..
القضية نفسها تتكرر في الصورة الأخرى، توكيداً لها وتدقيقاً في بيانها والعلة في الأولى هي العلة في الثانية:
{أولئك يدعون إلى النار، والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه. ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون}..
إن الطريقين مختلفان، والدعوتين مختلفتان، فكيف يلتقي الفريقان في وحدة تقوم عليها الحياة؟ إن طريق المشركين والمشركات إلى النار، ودعوتهم إلى النار. وطريق المؤمنين والمؤمنات هو طريق الله. والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه.. فما أبعد دعوتهم إذن من دعوة الله!
ولكن أويدعو أولئك المشركون والمشركات إلى النار؟ ومن الذي يدعو نفسه أو غيره إلى النار؟!
ولكنها الحقيقة الأخيرة يختصر السياق إليها الطريق! ويبرزها من أولها دعوة إلى النار، بما أن مآلها إلى النار. والله يحذر من هذه الدعوة المردية {ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون}.. فمن لم يتذكر، واستجاب لتلك الدعوة فهو الملوم!
هنا نتذكر أن الله لم يحرم زواج المسلم من كتابية- مع اختلاف العقيدة- ولكن الأمر هنا يختلف. إن المسلم والكتابية يلتقيان في أصل العقيدة في الله. وإن اختلفت التفصيلات التشريعية..
وهناك خلاف فقهي في حالة الكتابية التي تعتقد أن الله ثالث ثلاثة، أو أن الله هو المسيح بن مريم، أو أن العزير ابن الله.. أهي مشركة محرمة. أم تعتبر من أهل الكتاب وتدخل في النص الذي في المائدة: {اليوم أحل لكم الطيبات} {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} والجمهور على أنها تدخل في هذا النص.. ولكني أميل إلى اعتبار الرأي القائل بالتحريم في هذه الحالة. وقد رواه البخاري عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: قال ابن عمر: «لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول ربها عيسى»..
فأما الأمر في زواج الكتابي من مسلمة فهو محظور؛ لأنه يختلف في واقعه عن زواج المسلم بكتابية- غير مشركة- ومن هنا يختلف في حكمه.. إن الأطفال يدعون لآبائهم بحكم الشريعة الإسلامية. كما أن الزوجة هي التي تتنقل إلى أسرة الزوج وقومه وأرضه بحكم الواقع. فإذا تزوج المسلم من الكتابية (غير المشركة) انتقلت هي إلى قومه، ودعي أبناؤه منها باسمه، فكان الإسلام هو الذي يهيمن ويظلل جو المحصن. ويقع العكس حين تتزوج المسلمة من كتابي، فتعيش بعيداً عن قومها، وقد يفتنها ضعفها ووحدتها هنالك عن إسلامها كما أن أبناءها يدعون إلى زوجها، ويدينون بدين غير دينها. والإسلام يجب أن يهيمن دائماً.
على أن هناك اعتبارات عملية قد تجعل المباح من زواج المسلم بكتابية مكروهاً.
وهذا ما رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمام بعض الاعتبارات:
قال ابن كثير في التفسير: «قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله- بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات- وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني»..
وروي أن حذيفة تزوج يهودية فكتب إليه عمر: خل سبيلها. فكتب إليه: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام ولكن أخاف أن تعاظلوا المؤمنات منهن. وفي رواية أخرى أنه قال: المسلم يتزوج النصرانية. والمسلمة؟
ونحن نرى اليوم أن هذه الزيجات شر على البيت المسلم.. فالذي لا يمكن إنكاره واقعياً أن الزوجة اليهودية أو المسيحية أو اللادينية تصبغ بيتها وأطفالها بصبغتها، وتخرج جيلاً أبعد ما يكون عن الإسلام. وبخاصة في هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه، والذي لا يطلق عليه الإسلام إلا تجوزاً في حقيقة الأمر. والذي لا يمسك من الإسلام إلا بخيوط واهية شكلية تقضي عليها القضاء الأخير زوجة تجيء من هناك!
{ويسألونك عن المحيض. قل هو أذى. فاعتزلوا النساء في المحيض؛ ولا تقربوهن حتى يطهرن. فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله. إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. نساؤكم حرث لكم. فأتوا حرثكم أنى شئتم، وقدموا لأنفسكم، واتقوا الله، واعلموا أنكم ملاقوه، وبشر المؤمنين}..
وهذه لفتة أخرى إلى تلك العلاقة ترفعها إلى الله؛ وتسمو بأهدافها عن لذة الجسد حتى في أشد أجزائها علاقة بالجسد.. في المباشرة..
إن المباشرة في تلك العلاقة وسيلة لا غاية. وسيلة لتحقيق هدف أعمق في طبيعة الحياة. هدف النسل وامتداد الحياة، ووصلها كلها بعد ذلك بالله. والمباشرة في المحيض قد تحقق اللذة الحيوانية- مع ما ينشأ عنها من أذى ومن أضرار صحية مؤكدة للرجل والمرأة سواء- ولكنها لا تحقق الهدف الأسمى. فضلا على انصراف الفطرة السليمة النظيفة عنها في تلك الفترة. لأن الفطرة السليمة يحكمها من الداخل ذات القانون الذي يحكم الحياة. فتنصرف بطبعها- وفق هذا القانون- عن المباشرة في حالة ليس من الممكن أن يصح فيها غرس، ولا أن تنبت منها حياة. والمباشرة في الطهر تحقق اللذة الطبيعية، وتحقق معها الغاية الفطرية. ومن ثم جاء ذلك النهي إجابة عن ذلك السؤال:
{ويسألونك عن المحيض. قل: هو أذى. فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن}..
وليست المسألة بعد ذلك فوضى، ولا وفق الأهواء والانحرافات. إنما هي مقيدة بأمر الله؛ فهي وظيفة ناشئة عن أمر وتكليف، مقيدة بكيفية وحدود:
{فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله}..
في منبت الإخصاب دون سواه. فليس الهدف هو مطلق الشهوة، إنما الغرض هو امتداد الحياة.
وابتغاء ما كتب الله. فالله يكتب الحلال ويفرضه؛ والمسلم يبتغي هذا الحلال الذي كتبه له ربه، ولا ينشئ هو نفسه ما يبتغيه. والله يفرض ما يفرض ليطهر عباده، ويحب الذين يتوبون حين يخطئون ويعودون إليه مستغفرين:
{إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}..
وفي هذا الظل يصور لوناً من ألوان العلاقة الزوجية يناسبه ويتسق مع خطوطه:
{نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}..
وفي هذا التعبير الدقيق ما فيه من إشارات إلى طبيعة تلك العلاقة في هذا الجانب، وإلى أهدافها واتجاهاتها نعم! إن هذا الجانب لا يستغرق سائر العلاقات بين الزوج وزوجه. وقد جاء وصفها وذكرها في مواضع أخرى مناسبة للسياق في تلك المواضع. كقوله تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} وقوله: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} فكل من هذه التعبيرات يصور جانباً من جوانب تلك العلاقة العميقة الكبيرة في موضعه المناسب. أما مناسبة السياق هنا فيتسق معها التعبير بالحرث. لأنها مناسبة إخصاب وتوالد ونماء. وما دام حرثاً فأتوه بالطريقة التي تشاءون. ولكن في موضع الإخصاب الذي يحقق غاية الحرث:
{فأتوا حرثكم أنى شئتم}..
وفي الوقت ذاته تذكروا الغاية والهدف، واتجهوا إلى الله فيه بالعبادة والتقوى؛ فيكون عملاً صالحاً تقدمونه لأنفسكم. واستيقنوا من لقاء الله، الذي يجزيكم بما قدمتم:
{وقدموا لأنفسكم. واتقوا الله. واعلموا أنكم ملاقوه}..
ثم يختم الآية بتبشير المؤمنين بالحسنى عند لقاء الله، وفي هذا الذي يقدمونه من الحرث، فكل عمل للمؤمن خير، وهو يتجه فيه إلى الله:
{وبشر المؤمنين}..
هنا نطلع على سماحة الإسلام، الذي يقبل الإنسان كما هو، بميوله وضروراته؛ لا يحاول أن يحطم فطرته باسم التسامي والتطهر؛ ولا يحاول أن يستقذر ضروراته التي لا يد له فيها؛ إنما هو مكلف إياها في الحقيقة لحساب الحياة وامتدادها ونمائها! إنما يحاول فقط أن يقرر إنسانيته ويرفعها، ويصله بالله وهو يلبي دوافع الجسد. يحاول أن يخلط دوافع الجسد بمشاعر إنسانية أولاً، وبمشاعر دينية أخيراً؛ فيربط بين نزوة الجسد العارضة وغايات الإنسانية الدائمة ورفرفة الوجدان الديني اللطيف؛ ويمزج بينها جميعا في لحظة واحدة، وحركة واحدة، واتجاه واحد، ذلك المزج القائم في كيان الإنسان ذاته، خليفة الله في أرضه، المستحق لهذه الخلافة بما ركب في طبيعته من قوى وبما أودع في كيانه من طاقات.. وهذا المنهج في معاملة الإنسان هو الذي يلاحظ الفطرة كلها لأنه من صنع خالق هذه الفطرة. وكل منهج آخر يخالف عنه في قليل أو كثير يصطدم بالفطرة فيخفق، ويشقى الإنسان فرداً وجماعة. والله يعلم وأنتم لا تعلمون..
ثم ينتقل السياق من الحديث عن حكم المباشرة في فترة الحيض، إلى الحديث عن حكم الإيلاء.. أي الحلف بالهجران والامتناع عن المباشرة.
وبهذه المناسبة يلم بالحلف ذاته فيجعل الحديث عنه مقدمة للحديث عن الإيلاء.
{ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس، والله سميع عليم، لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، والله غفور حليم. للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر. فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم}..
التفسير المروي في قوله تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم..} عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: لا تجعلن عرضة يمينك ألا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير. وكذا قال مسروق والشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد وطاووس وسعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومكحول والزهري والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والضحاك وعطاء الخراساني والسدي- رحمهم الله-كما نقل ابن كثير.
ومما يستشهد به لهذا التفسير ما رواه مسلم- بإسناده- عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير». وما رواه البخاري- بإسناده- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه».
وعلى هذا يكون معناها: لا تجعلوا الحلف بالله مانعاً لكم من عمل البر والتقوى والإصلاح بين الناس. فإذا حلفتم ألا تفعلوا، فكفروا عن إيمانكم وأتوا الخير. فتحقيق البر والتقوى والإصلاح أولى من المحافظة على اليمين.
وذلك كالذي وقع من أبي بكر رضي الله عنه حين أقسم لا يبر مسطحاً قريبه الذي شارك في حادثة الإفك- فأنزل الله الآية التي في سورة النور: {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربي والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وليعفوا وليصفحوا. ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟} فرجع أبو بكر عن يمينه وكفر عنها.
على أن الله كان أرأف بالناس، فلم يجعل الكفارة إلا في اليمين المعقودة، التي يقصد إليها الحالف قصداً، وينوي ما وراءها مما حلف عليه. فأما ما جرى به اللسان عفواً ولغواً من غير قصد، فقد أعفاهم منه ولم يوجب فيه الكفارة:
{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم. والله غفور حليم}.. وقد روى أبو داود- بإسناده- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته: كلا والله. وبلى والله». ورواه ابن جرير عن طريق عروة موقوفاً على عائشة: «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم.. لا والله وبلى والله». وفي حديث مرسل- عن الحسن بن أبي الحسن- قال: «مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينتضلون- يعني يرمون- ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه. فقام رجل من القوم فقال: أصبت والله وأخطأت والله. فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم للنبي صلى الله عليه وسلم حنث الرجل يا رسول الله. قال: كلا. أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة».
وورد عن ابن عباس- رضي الله عنهما- لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان.. كما روي عنه: لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله، فذلك ليس عليكم فيه كفارة..
وعن سعيد بن المسيب «أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث. فسأل أحدهما صاحبه القسمة. فقال: إن عدت تسألني عن القسمة فكل ما لي في رتاج الكعبة! فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك! كفر عن يمينك وكلم أخاك. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب عز وجل، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك».
والذي يخلص من هذه الآثار أن اليمين التي لا تنعقد النية على ما وراءها، إنما يلغو بها اللسان، لا كفارة فيها. وأن اليمين التي ينوي الحالف الأخذ أو الترك لما حلف عليه هي التي تنعقد. وهي التي تستوجب الكفارة عند الحنث بها. وإنه يجب الحنث بها إن كان مؤداها الامتناع عن فعل خير أو الإقدام على فعل شر. فأما إذا حلف الإنسان على شيء وهو يعلم أنه كاذب، فبعض الآراء أنه لا تقوم لها كفارة أي لا يكفر عنها شيء. قال الإمام مالك في الموطأ: أحسن ما سمعت في ذلك أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد بخلافه فلا كفارة فيه. والذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه فيه آثم كاذب ليرضي به أحداً، ويقتطع به مالاً، فهذا أعظم من أن تكون له كفارة.
ويعقب السياق على حكم العدول عن اليمين إلى ما فيه البر والخير بقوله: {والله سميع عليم}.. ليوحي إلى القلب بأن الله- سبحانه- يسمع ما يقال ويعلم أين هو الخير. ومن ثم يحكم هذا الحكم.
ويعقب على حكم يمين اللغو واليمين المعقودة التي ينويها القلب بقوله: {والله غفور حليم}.. ليلوح للقلب بحلم الله عن مؤاخذة العباد بكل ما يفلت من ألسنتهم، ومغفرته كذلك- بعد التوبة- لما تأثم به قلوبهم.
بهذا وذلك يربط الأمر بالله، ويعلق القلوب بالاتجاه إليه في كل ما تكسب وكل ما تقول.
وعند الانتهاء من تقرير القاعدة الكلية في الحلف، يأخذ في الحديث عن يمين الإيلاء: وهي أن يحلف الزوج ألا يباشر زوجته. إما لأجل غير محدود، وإما لأجل طويل معين:
{للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر. فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم}..
إن هناك حالات نفسية واقعة، تلم بنفوس بعض الأزواج، بسبب من الأسباب في أثناء الحياة الزوجية وملابساتها الواقعية الكثيرة، تدفعهم إلى الإيلاء بعدم المباشرة، وفي هذا الهجران ما فيه من إيذاء لنفس الزوجة؛ ومن إضرار بها نفسيا وعصبياً؛ ومن إهدار لكرامتها كأنثى؛ ومن تعطيل للحياة الزوجية؛ ومن جفوة تمزق أوصال العشرة، وتحطم بنيان الأسرة حين تطول عن أمد معقول.
ولم يعمد الإسلام إلى تحريم هذا الإيلاء منذ البداية، لأنه قد يكون علاجاً نافعاً في بعض الحالات للزوجة الشامسة المستكبرة المختالة بفتنتها وقدرتها على إغراء الرجل وإذلاله أو إعناته. كما قد يكون فرصة للتنفيس عن عارض سأم، أو ثورة غضب، تعود بعده الحياة أنشط وأقوى..
ولكنه لم يترك الرجل مطلق الإرادة كذلك، لأنه قد يكون باغياً في بعض الحالات يريد اعنات المرأة وإذلالها؛ أو يريد إيذاءها لتبقى معلقة، لا تستمتع بحياة زوجية معه، ولا تنطلق من عقالها هذا لتجد حياة زوجية أخرى.
فتوفيقاً بين الاحتمالات المتعددة، ومواجهة للملابسات الواقعية في الحياة. جعل هنالك حداً أقصى للإيلاء. لا يتجاوز أربعة أشهر. وهذا التحديد قد يكون منظوراً فيه إلى أقصى مدى الاحتمال، كي لا تفسد نفس المرأة، فتتطلع تحت ضغط حاجتها الفطرية إلى غير رجلها الهاجر. وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج من الليل يعس. أي يتحسس حاج


ندرك قيمة هذا الدرس. وما يتضمنه من تجارب الجماعات السابقة والأمم الغابرة، حين نستحضر في أنفسنا أن القرآن هو كتاب هذه الأمة الحي؛ ورائدها الناصح؛ وأنه هو مدرستها التي تلقت فيها دروس حياتها. وأن الله- سبحانه- كان يربي به الجماعة المسلمة الأولى التي قسم لها إقامة منهجه الرباني في الأرض، وناط بها هذا الدور العظيم بعد أن أعدها له بهذا القرآن الكريم. وأنه- تعالى- أراد بهذا القرآن أن يكون هو الرائد الحي- الباقي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لقيادة أجيال هذه الأمة، وتربيتها، وإعدادها لدور القيادة الراشدة الذي وعدها به، كلما اهتدت بهديه، واستمسكت بعهدها معه، واستمدت منهج حياتها كله من هذا القرآن، واستعزت به واستعلت على جميع المناهج الأرضية. وهي بصفتها هذه، مناهج الجاهلية!
إن هذا القرآن ليس مجرد كلام يتلى.. ولكنه دستور شامل.. دستور للتربية، كما أنه دستور للحياة العملية، ومن ثم فقد تضمن عرض تجارب البشرية بصورة موحية على الجماعة المسلمة التي جاء لينشئها ويربيها؛ وتضمن بصفة خاصة تجارب الدعوة الإيمانية في الأرض من لدن آدم- عليه السلام- وقدمها زاداً للأمة المسلمة في جميع أجيالها. تجاربها في الأنفس، وتجاربها في واقع الحياة. كي تكون الأمة المسلمة على بينة من طريقها، وهي تتزود لها بذلك الزاد الضخم، وذلك الرصيد المتنوع.
ومن ثم جاء القصص في القرآن بهذه الوفرة، وبهذا التنوع، وبهذا الإيحاء.. وقصص بني إسرائيل هو أكثر القصص وروداً في القرآن الكريم، لأسباب عدة، ذكرنا بعضها في الجزء الأول من الظلال عند استقبال أحداث بني إسرائيل؛ وذكرنا بعضها في هذا الجزء في مناسبات شتى- وبخاصة في أوله- ونضيف إليها هنا ما نرجحه.. وهو أن الله- سبحانه- علم أن أجيالاً من هذه الأمة المسلمة ستمر بأدوار كالتي مر فيها بنو إسرائيل، وتقف من دينها وعقيدتها مواقف شبيهة بمواقف بني إسرائيل؛ فعرض عليها مزالق الطريق، مصورة في تاريخ بني إسرائيل، لتكون لها عظة وعبرة؛ ولترى صورتها في هذه المرآة المرفوعة لها بيد الله- سبحانه- قبل الوقوع في تلك المزالق أو اللجاج فيها على مدار الطريق!
إن هذا القرآن ينبغي أن يقرأ وأن يتلقى من أجيال الأمة المسلمة بوعي. وينبغي أن يتدبر على أنه توجيهات حية، تتنزل اليوم، لتعالج مسائل اليوم، ولتنير الطريق إلى المستقبل. لا على أنه مجرد كلام جميل يرتل؛ أو على أنه سجل لحقيقة مضت ولن تعود!
ولن ننتفع بهذا القرآن حتى نقرأه لنلتمس عنده توجيهات حياتنا الواقعة في يومنا وفي غدنا؛ كما كانت الجماعة المسلمة الأولى تتلقاه لتلتمس عنده التوجيه الحاضر في شؤون حياتها الواقعة.
وحين نقرأ القرآن بهذا الوعي سنجد عنده ما نريد. وسنجد فيه عجائب لا تخطر على البال الساهي! سنجد كلماته وعباراته وتوجيهاته حية تنبض وتتحرك وتشير إلى معالم الطريق؛ وتقول لنا: هذا فافعلوه وهذا لا تفعلوه. وتقول لنا: هذا عدو لكم وهذا صديق. وتقول لنا: كذا فاتخذوا من الحيطة وكذا فاتخذوا من العدة. وتقول لنا حديثاً طويلاً مفصلاً دقيقاً في كل ما يعرض لنا من الشؤون.. وسنجد عندئذ في القرآن متاعاً وحياة؛ وسندرك معنى قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} فهي دعوة للحياة.. للحياة الدائمة المتجددة. لا لحياة تاريخية محدودة في صفحة عابرة من صفحات التاريخ.
هذا الدرس يعرض تجربتين من تجارب الأمم؛ يضمهما إلى ذخيرة هذه الأمة من التجارب؛ ويعد بهما الجماعة المسلمة لما هي معرضة له في حياتها من المواقف؛ بسبب قيامها بدورها الكبير، بوصفها وارثة العقيدة الإيمانية، ووارثة التجارب في هذا الحقل الخصيب.
والأولى تجربة لا يذكر القرآن أصحابها؛ ويعرضها في اختصار كامل، ولكنه واف. فهي تجربة جماعة {خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت}.. فلم ينفعهم الخروج والفرار والحذر؛ وأدركهم قدر الله الذي خرجوا حذراً منه.. فقال لهم الله: {موتوا}.. {ثم أحياهم}.. لم ينفعهم الجهد في اتقاء الموت، ولم يبذلوا جهداً في استرجاع الحياة. وإنما هو قدر الله في الحالين.
وفي ظل هذه التجربة يتجه إلى الذين آمنوا يحرضهم على القتال، وعلى الإنفاق في سبيل الله، واهب الحياة. وواهب المال. والقادر على قبض الحياة وقبض المال.
والثانية تجربة في حياة بني إسرائيل من بعد موسى.. بعدما ضاع ملكهم، ونهبت مقدساتهم، وذلوا لأعدائهم، وذاقوا الويل بسبب انحرافهم عن هدْي ربهم، وتعاليم نبيهم.. ثم انتفضت نفوسهم انتفاضة جديدة؛ واستيقظت في قلوبهم العقيدة؛ واشتاقوا القتال في سبيل الله. فقالوا: {لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله}.
ومن خلال هذه التجربة- كما يعرضها السياق القرآني الموحي- تبرز جملة حقائق، تحمل إيحاءات قوية للجماعة المسلمة في كل جيل، فضلاً على ما كانت تحمله للجماعة المسلمة في ذلك الحين.
والعبرة الكلية التي تبرز من القصة كلها هي أن هذه الانتفاضة- انتفاضة العقيدة- على الرغم من كل ما اعتورها أمام التجربة الواقعة من نقص وضعف، ومن تخلي القوم عنها فوجاً بعد فوج في مراحل الطريق- على الرغم من هذا كله فإن ثبات حفنة قليلة من المؤمنين عليها قد حقق لبني إسرائيل نتائج ضخمة جداً.. فقد كان فيها النصر والعز والتمكين، بعد الهزيمة المنكرة، والمهانة الفاضحة، والتشريد الطويل والذل تحت أقدام المتسلطين. ولقد جاءت لهم بملك داود، ثم ملك سليمان- وهذه أعلى قمة وصلت إليها دولة بني إسرائيل في الأرض- وهي عهدهم الذهبي الذي يتحدثون عنه؛ والذي لم يبلغوه من قبل في عهد النبوة الكبرى.
وكان هذا النصر كله ثمرة مباشرة لانتفاضة العقيدة من تحت الركام؛ وثبات حفنة قليلة عليها أمام جحافل جالوت!
وفي خلال التجربة تبرز بضع عظات أخرى جزئية؛ كلها ذات قيمة للجماعة المسلمة في كل حين:
من ذلك.. أن الحماسة الجماعية قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها. فيجب أن يضعوها على محك التجربة قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة.. فقد تقدم الملأ من بني إسرائيل- من ذوي الرأي والمكانة فيهم- إلى نبيهم في ذلك الزمان، يطلبون إليه أن يختار لهم ملكاً يقودهم إلى المعركة مع أعداء دينهم، الذين سلبوا ملكهم وأموالهم ومعها مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون. فلما أراد نبيهم أن يستوثق من صحة عزيمتهم على القتال، وقال لهم: {هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا!} استنكروا عليه هذا القول، وارتفعت حماستهم إلى الذروة وهم يقولون له: {وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟}.. ولكن هذه الحماسة البالغة ما لبثت أن انطفأت شعلتها، وتهاوت على مراحل الطريق كما تذكر القصة؛ وكما يقول السياق بالإجمال: {فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم}.. ومع أن لبني إسرائيل طابعاً خاصاً في النكول عن العهد، والنكوص عن الوعد، والتفرق في منتصف الطريق.. إلا أن هذه الظاهرة هي ظاهرة بشرية على كل حال، في الجماعات التي لم تبلغ تربيتها الإيمانية مبلغاً عالياً من التدريب.. وهي خليقة بأن تصادف قيادة الجماعة المسلمة في أي جيل.. فيحسن الانتفاع فيها بتجربة بني إسرائيل.
ومن ذلك أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الفائر في نفوس الجماعات ينبغي أن لا يقف عند الابتلاء الأول.. فإن كثرة بني إسرائيل هؤلاء قد تولوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم. ولم تبق إلا قلة مستمسكة بعهدها مع نبيها. وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت بعد الحجاج والجدال حول جدارته بالملك والقيادة، ووقوع علامة الله باختياره لهم، ورجعة تابوتهم وفيه مخلفات أنبيائهم تحمله الملائكة...! ومع هذا فقط سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى. وضعفوا أمام الامتحان الأول الذي أقامه لهم قائدهم: {فلما فصل طالوت بالجنود قال: إن الله مبتليكم بنهر: فمن شرب منه فليس مني. ومن لم يطعمه فإنه مني- إلا من اغترف غرفة بيده- فشربوا منه إلا قليلاً منهم}.. وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية. فأمام الهول الحي، أمام كثرة الأعداء وقوتهم، تهاوت العزائم وزلزلت القلوب: {فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده}.. وأمام هذا التخاذل ثبتت الفئة القليلة المختارة.
اعتصمت بالله ووثقت، وقالت: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}.. وهذه هي التي رجحت الكفة، وتلقت النصر، واستحقت العز والتمكين.
وفي ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة.. وكلها واضحة في قيادة طالوت. تبرز منها خبرته بالنفوس؛ وعدم اغتراره بالحماسة الظاهرة، وعدم اكتفائه بالتجربة الأولى، ومحاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس جنوده قبل المعركة، وفصله للذين ضعفوا وتركهم وراءه.. ثم- وهذا هو الأهم- عدم تخاذله وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة؛ ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة. فخاض بها المعركة ثقة منه بقوة الإيمان الخالص، ووعد الله الصادق للمؤمنين.
والعبرة الأخيرة التي تكمن في مصير المعركة.. أن القلب الذي يتصل بالله تتغير موازينه وتصوراته؛ لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل، وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود. فهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقت النصر، كانت ترى من قلتها وكثرة عدوها ما يراه الآخرون الذين قالوا: {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده}.. ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف. إنما حكمت حكماً آخر، فقالت: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين}.. ثم اتجهت لربها تدعوه: {ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين}. وهي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين، إنما هو في يد الله وحده، فطلبت منه النصر، ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه.. وهكذا تتغير التصورات والموازين للأمور عند الاتصال بالله حقاً، وعندما يتحقق في القلب الإيمان الصحيح. وهكذا يثبت أن التعامل مع وعد الله الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون!
ولا نستوعب الإيحاءات التي تتضمنها القصة. فالنصوص القرآنية- كما علمتنا التجربة- تفصح عن إيحاءاتها لكل قلب بحسب ما هو فيه من الشأن؛ وبقدر حاجته الظاهرة فيه. ويبقى لها رصيدها المذخور تتفتح به على القلوب، في شتى المواقف، على قدر مقسوم..
فنخلص إذن من هذا العرض العام إلى تفصيل النصوص:
{ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت؛ فقال لهم الله: موتوا. ثم أحياهم. إن الله لذو فضل على الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون}..
لا أحب أن نذهب في تيه التأويلات، عن هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.. من هم؟ وفي أي أرض كانوا؟ وفي أي زمان خرجوا؟ فلو كان الله يريد بياناً عنهم لبين، كما يجيء القصص المحدد في القرآن. إنما هذه عبرة وعظة يراد مغزاها، ولا تراد أحداثها وأماكنها وأزمانها. وتحديد الأماكن والأزمان لا يزيد هنا شيئاً على عبرة القصة ومغزاها.
إنما يراد هنا تصحيح التصور عن الموت والحياة، وأسبابهما الظاهرة، وحقيقتهما المضمرة؛ ورد الأمر فيهما إلى القدرة المدبرة. والاطمئنان إلى قدر الله فيهما. والمضي في حمل التكاليف والواجبات دون هلع ولا جزع، فالمقدر كائن، والموت والحياة بيد الله في نهاية المطاف..
يراد أن يقال: إن الحذر من الموت لا يجدي؛ وإن الفزع والهلع لا يزيدان حياة، ولا يمدان أجلاً، ولا يردان قضاء؛ وإن الله هو واهب الحياة، وهو آخذ الحياة؛ وإنه متفضل في الحالتين: حين يهب، وحين يسترد؛ والحكمة الإلهية الكبرى كامنة خلف الهبة وخلف الاسترداد. وإن مصلحة الناس متحققة في هذا وذاك؛ وإن فضل الله عليهم متحقق في الأخذ والمنح سواء:
{إن الله لذو فضل على الناس. ولكن أكثر الناس لا يشكرون}.
إن تجمع هؤلاء القوم {وهم ألوف} وخروجهم من ديارهم {حذر الموت}.. لا يكون إلا في حالة هلع وجزع، سواء كان هذا الخروج خوفاً من عدو مهاجم، أو من وباء حائم.. إن هذا كله لم يغن عنهم من الموت شيئاً:
{فقال لهم الله.. موتوا}..
كيف قال لهم؟ كيف ماتوا؟ هل ماتوا بسبب مما هربوا منه وفزعوا؟ هل ماتوا بسبب آخر من حيث لم يحتسبوا؟ كل ذلك لم يرد عنه تفصيل، لأنه ليس موضع العبرة. إنما موضع العبرة أن الفزع والجزع والخروج والحذر، لم تغير مصيرهم، ولم تدفع عنهم الموت، ولم ترد عنهم قضاء الله. وكان الثبات والصبر والتجمل أولى لو رجعوا لله..
{ثم أحياهم}..
كيف؟ هل بعثهم من موت ورد عليهم الحياة؛ هل خلف من ذريتهم خلف تتمثل فيه الحياة القوية فلا يجزع ولا يهلع هلع الآباء؟ ذلك كذلك لم يرد عنه تفصيل. فلا ضرورة لأن نذهب وراءه في التأويل، لئلا نتيه في أساطير لا سند لها كما جاء في بعض التفاسير.. إنما الإيحاء الذي يتلقاه القلب من هذا النص أن الله وهبهم الحياة من غير جهد منهم. في حين أن جهدهم لم يرد الموت عنهم.
إن الهلع لا يرد قضاء؛ وإن الفزع لا يحفظ حياة؛ وإن الحياة بيد الله هبة منه بلا جهد من الأحياء.. إذن فلا نامت أعين الجبناء!
{وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم}..
هنا ندرك طرفاً من هدف تلك الحادثة ومغزاها؛ وندرك طرفاً من حكمة الله في سوق هذه التجربة للجماعة المسلمة في جيلها الأول وفي أجيالها جميعاً.. ألا يقعدن بكم حب الحياة، وحذر الموت، عن الجهاد في سبيل الله. فالموت والحياة بيد الله. قاتلوا في سبيل الله لا في سبيل غاية أخرى. وتحت راية الله لا تحت راية أخرى.. قاتلوا في سبيل الله:
{واعلموا أن الله سميع عليم}..
يسمع ويعلم.. يسمع القول ويعلم ما وراءه.. أو يسمع فيستجيب ويعلم ما يصلح الحياة والقلوب.
قاتلوا في سبيل الله وليس هناك عمل ضائع عند الله، واهب الحياة وآخذ الحياة.
والجهاد في سبيل الله بذل وتضحية. وبذل المال والإنفاق في سبيل الله يقترن في القرآن غالباً بذكر الجهاد والقتال. وبخاصة في تلك الفترة حيث كان الجهاد تطوعاً، والمجاهد ينفق على نفسه، وقد يقعد به المال حين لا يقعد به الجهد؛ فلم يكن بد من الحث المستمر على الإنفاق لتيسير الطريق للمجاهدين في سبيل الله. وهنا تجيء الدعوة إلى الإنفاق في صورة موحية دافعة:
{من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسنا فيضاعفه له أضعافاً كثيرة، والله يقبض ويبسط، وإليه ترجعون}..
وإذا كان الموت والحياة بيد الله، والحياة لا تذهب بالقتال إذا قدر الله لها البقاء، فكذلك المال لا يذهب بالإنفاق. إنما هو قرض حسن لله، مضمون عنده، يضاعفه أضعافاً كثيرة. يضاعفه في الدنيا مالاً وبركة وسعادة وراحة؛ ويضاعفه في الآخرة نعيماً ومتاعاً ورضى وقربى من الله.
ومرد الأمر في الغنى والفقر إلى الله، لا إلى حرص وبخل. ولا إلى بذل وإنفاق:
{والله يقبض ويبسط}..
والمرجع إليه سبحانه في نهاية المطاف. فأين يكون المال والناس أنفسهم راجعون بقضهم وقضيضهم إلى الله: {وإليه ترجعون}..
وإذن فلا فزع من الموت، ولا خوف من الفقر، ولا محيد عن الرجعة إلى الله. وإذن فليجاهد المؤمنون في سبيل الله، وليقدموا الأرواح والأموال؛ وليستقينوا أن أنفاسهم معدودة، وأن أرزاقهم مقدرة، وأنه من الخير لهم أن يعيشوا الحياة قوية طليقة شجاعة كريمة. ومردهم بعد ذلك إلى الله..
ولا يفوتني بعد تقرير تلك الإيحاءات الإيمانية التربوية الكريمة التي تضمنتها الآيات.. أن ألم بذلك الجمال الفني في الأداء:
{ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت؟}.. إن في التعبير استعراضاً لهذه الألوف ولهذه الصفوف استعراضاً ترسمه هاتان الكلمتان: {ألم تر؟}.. وأي تعبير آخر ما كان ليرسم أمام المخيلة هذا الاستعراض كما رسمته هاتان الكلمتان العاديتان في موضعهما المختار.
ومن مشهد الألوف المؤلفة، الحذرة من الموت، المتلفتة من الذعر.. إلى مشهد الموت المطبق في لحظة؛ ومن خلال كلمة: {موتوا}.. كل هذا الحذر، وكل هذا التجمع، وكل هذه المحاولة.. كلها ذهبت هباء في كلمة واحدة: {موتوا}.. ليلقي ذلك في الحس عبث المحاولة، وضلالة المنهج؛ كما يلقي صرامة القضاء، وسرعة الفصل عند الله.
{ثم أحياهم}.. هكذا بلا تفصيل للوسيلة.. إنها القدرة المالكة زمام الموت وزمام الحياة. المتصرفة في شؤون العباد، لا ترد لها إرادة ولا يكون إلا ما تشاء.. وهذا التعبير يلقي الظل المناسب على مشهد الموت ومشهد الحياة.
ونحن في مشهد إماتة وإحياء. قبض للروح وإطلاق.. فلما جاء ذكر الرزق كان التعبير: {والله يقبض ويبسط}.. متناسقاً في الحركة مع قبض الروح وإطلاقها في إيجاز كذلك واختصار.
وكذلك يبدو التناسق العجيب في تصوير المشاهد، إلى جوار التناسق العجيب في إحياء المعاني وجمال الأداء..
ثم يورد السياق التجربة الثانية، وأبطالها هم بنو إسرائيل من بعد موسى:
{ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله. قال: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا! قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله، وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم. والله عليم بالظالمين}..
ألم تر؟ كأنها حادث واقع ومشهد منظور.. لقد اجتمع الملأ من بني إسرائيل، من كبرائهم وأهل الرأي فيهم- إلى نبي لهم. ولم يرد في السياق ذكر اسمه، لأنه ليس المقصود بالقصة، وذكره هنا لا يزيد شيئاً في إيحاء القصة، وقد كان لبني إسرائيل كثرة من الأنبياء يتتابعون في تاريخهم الطويل.. لقد اجتمعوا إلى نبي لهم، وطلبوا إليه أن يعين لهم ملكاً يقاتلون تحت إمرته {في سبيل الله}.. وهذا التحديد منهم لطبيعة القتال، وأنه في {سبيل الله} يشي بانتفاضة العقيدة في قلوبهم، ويقظة الإيمان في نفوسهم، وشعورهم بأنهم أهل دين وعقيدة وحق، وأن أعداءهم على ضلالة وكفر وباطل؛ ووضوح الطريق أمامهم للجهاد في سبيل الله.
وهذا الوضوح وهذا الحسم هو نصف الطريق إلى النصر. فلا بد للمؤمن أن يتضح في حسه أنه على الحق وأن عدوه على الباطل؛ ولا بد أن يتجرد في حسه الهدف.. في سبيل الله.. فلا يغشيه الغبش الذي لا يدري معه إلى أين يسير.
وقد أراد نبيهم أن يستوثق من صدق عزيمتهم، وثبات نيتهم، وتصميمهم على النهوض بالتبعة الثقيلة، وجدّهم فيما يعرضون عليه من الأمر:
{قال: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا!}..
ألا ينتظر أن تنكلوا عن القتال إن فرض عليكم؟ فأنتم الآن في سعة من الأمر. فأما إذا استجبت لكم، فتقرر القتال عليكم فتلك فريضة إذن مكتوبة؛ ولا سبيل بعدها إلى النكول عنها.. إنها الكلمة اللائقة بنبي، والتأكد اللائق بنبي. فما يجوز أن تكون كلمات الأنبياء وأوامرهم موضع تردد أو عبث أو تراخ.
وهنا ارتفعت درجة الحماسة والفورة؛ وذكر الملأ أن هناك من الأسباب الحافزة للقتال في سبيل الله ما يجعل القتال هو الأمر المتعين الذي لا تردد فيه:
{قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟}..
ونجد أن الأمر واضح في حسهم، مقرر في نفوسهم.. إن أعداءهم أعداء الله ولدين الله. وقد أخرجوهم من ديارهم وسبوا أبناءهم. فقتالهم واجب؛ والطريق الواحدة التي أمامهم هي القتال؛ ولا ضرورة إلى المراجعة في هذه العزيمة أو الجدال.
ولكن هذه الحماسة الفائرة في ساعة الرخاء لم تدم.
ويعجل السياق بكشف الصفحة التالية:
{فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم}..
وهنا نطلع على سمة خاصة من سمات إسرائيل في نقض العهد، والنكث بالوعد، والتفلت من الطاعة، والنكوص عن التكليف، وتفرق الكلمة، والتولي عن الحق البين.. ولكن هذه كذلك سمة كل جماعة لا تنضج تربيتها الإيمانية؛ فهي سمة بشرية عامة لا تغير منها إلا التربية الإيمانية العالية الطويلة الأمد العميقة التأثير. وهي- من ثم- سمة ينبغي للقيادة أن تكون منها على حذر، وأن تحسب حسابها في الطريق الوعر، كي لا تفاجأ بها، فيتعاظمها الأمر! فهي متوقعة من الجماعات البشرية التي لم تخلص من الأوشاب، ولم تصهر ولم تطهر من هذه العقابيل.
والتعقيب على هذا التولي:
{والله عليم بالظالمين}..
وهو يشي بالاستنكار؛ ووصم الكثرة التي تولت عن هذه الفريضة- بعد طلبها- وقبل أن تواجه الجهاد مواجهة عملية.. وصمها بالظلم. فهي ظالمة لنفسها، وظالمة لنبيها، وظالمة للحق الذي خذلته وهي تعرف أنه الحق، ثم تتخلى عنه للمبطلين!
إن الذي يعرف أنه على الحق، وأن عدوه على الباطل- كما عرف الملأ من بني إسرائيل وهم يطلبون أن يبعث لهم نبيهم ملكاً ليقاتلوا {في سبيل الله}.. ثم يتولى بعد ذلك عن الجهاد ولا ينهض بتبعة الحق الذي عرفه في وجه الباطل الذي عرفه.. إنما هو من الظالمين المجزيين بظلمهم.. {والله عليم بالظالمين}..
{وقال لهم نبيهم: إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً. قالوا: أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال؟ قال: إن الله اصطفاه عليكم، وزاده بسطة في العلم والجسم. والله يؤتي ملكه من يشاء. والله واسع عليم}..
وفي هذه اللجاجة تتكشف سمة من سمات إسرائيل التي وردت الإشارات إليها كثيرة في هذه السورة.. لقد كان مطلبهم أن يكون لهم ملك يقاتلون تحت لوائه. ولقد قالوا: إنهم يريدون أن يقاتلوا {في سبيل الله}. فها هم أولاء ينغضون رؤوسهم، ويلوون أعناقهم، ويجادلون في اختيار الله لهم كما أخبرهم نبيهم؛ ويستنكرون أن يكون طالوت- الذي بعثه الله لهم- ملكاً عليهم. لماذا؟ لأنهم أحق بالملك منه بالوراثة. فلم يكن من نسل الملوك فيهم! ولأنه لم يؤت سعة من المال تبرر التغاضي عن أحقية الوراثة!.. وكل هذا غبش في التصور، كما أنه من سمات بني إسرائيل المعروفة..
ولقد كشف لهم نبيهم عن أحقيته الذاتية، وعن حكمة الله في اختياره:
{قال إن الله اصطفاه عليكم، وزاده بسطة في العلم والجسم. والله يؤتي ملكه من يشاء. والله واسع عليم}..
إنه رجل قد اختاره الله.. فهذه واحدة.. وزاده بسطة في العلم والجسم.. وهذه أخرى.. والله {يؤتي ملكه من يشاء}.. فهو ملكه، وهو صاحب التصرف فيه، وهو يختار من عباده من يشاء.
{والله واسع عليم}.. ليس لفضله خازن وليس لعطائه حد. وهو الذي يعلم الخير، ويعلم كيف توضع الأمور في مواضعها..
وهي أمور من شأنها أن تصحح التصور المشوش، وأن تجلو عنه الغبش.. ولكن طبيعة إسرائيل- ونبيها يعرفها- لا تصلح لها هذه الحقائق العالية وحدها. وهم مقبلون على معركة. ولا بد لهم من خارقة ظاهرة تهز قلوبهم، وتردها إلى الثقة واليقين:
{وقال لهم نبيهم: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت، فيه سكينة من ربكم، وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة. إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين}..
وكان أعداؤهم الذين شردوهم من الأرض المقدسة- التي غلبوا عليها على يد نبيهم يوشع بعد فترة التيه ووفاة موسى- عليه السلام- قد سلبوا منهم مقدساتهم ممثلة في التابوت الذي يحفظون فيه مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون وقيل: كانت فيه نسخة الألواح التي أعطاها الله لموسى على الطور.. فجعل لهم نبيهم علامة من الله، أن تقع خارقة يشهدونها، فيأتيهم التابوت بما فيه {تحمله الملائكة} فتفيض على قلوبهم السكينة.. وقال لهم: إن هذه الآية تكفي دلالة على صدق اختيار الله لطالوت، إن كنتم حقاً مؤمنين..
ويبدو من السياق أن هذه الخارقة قد وقعت، فانتهى القوم منها إلى اليقين.
ثم أعد طالوت جيشه ممن لم يتولوا عن فريضة الجهاد، ولم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم من أول الطريق.. والسياق القرآني على طريقته في سياقة القصص يترك هنا فجوة بين المشهدين. فيعرض المشهد التالي مباشرة وطالوت خارج بالجنود:
{فلما فصل طالوت بالجنود قال: إن الله مبتليكم بنهر. فمن شرب منه فليس مني، ومن لم يطعمه فإنه مني- إلا من اغترف غرفة بيده. فشربوا منه إلا قليلاً منهم}..
هنا يتجلى لنا مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل.. إنه مقدم على معركة؛ ومعه جيش من أمة مغلوبة، عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة. وهو يواجه جيش أمة غالبة فلا بد إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام القوة الظاهرة الغالبة. هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة. الإرداة التي تضبط الشهوات والنزوات، وتصمد للحرمان والمشاق، وتستعلي على الضرورات والحاجات، وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها، فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء.. فلا بد للقائد المختار إذن أن يبلو إرادة جيشه، وصموده وصبره: صموده أولاً للرغبات والشهوات، وصبره ثانياً على الحرمان والمتاعب.. واختار هذه التجربة وهم كما تقول الروايات عطاش. ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه، ويؤثر العافية.. وصحت فراسته:
{فشربوا منه إلا قليلاً منهم}..
شربوا وارتووا. فقد كان أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده، تبل الظمأ ولكنها لا تشي بالرغبة في التخلف! وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم.
انفصلوا عنه لأنهم لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم. وكان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن الجيش الزاحف، لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة. والجيوش ليست بالعدد الضخم، ولكن بالقلب الصامد، والإرادة الجازمة، والإيمان الثابت المستقيم على الطريق.
ودلت هذه التجربة على أن النية الكامنة وحدها لا تكفي؛ ولا بد من التجربة العملية، ومواجهة واقع الطريق إلى المعركة قبل الدخول فيها. ودلت كذلك على صلابة عود القائد المختار الذي لم يهزه تخلف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى.. بل مضى في طريقه.
وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش طالوت- إلى حد- ولكن التجارب لم تكن قد انتهت بعد:
{فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده}..
لقد صاروا قلة وهم يعلمون قوة عدوهم وكثرته: بقيادة جالوت. إنهم مؤمنون لم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم. ولكنهم هنا أمام الواقع الذي يرونه بأعينهم فيحسون أنهم أضعف من مواجهته. إنها التجربة الحاسمة. تجربة الاعتزاز بقوة أخرى أكبر من قوة الواقع المنظور. وهذه لا يصمد لها إلا من اكتمل إيمانهم، فاتصلت بالله قلوبهم؛ وأصبحت لهم موازين جديدة يستمدونها من واقع إيمانهم، غير الموازين التي يستمدها الناس من واقع حالهم!
وهنا برزت الفئة المؤمنة. الفئة القليلة المختارة. والفئة ذات الموازين الربانية:
{قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله. والله مع الصابرين}..
هكذا.. {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة}.. بهذا التكثير. فهذه هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقو الله. القاعدة: أن تكون الفئة المؤمنة قليلة لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاق حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار. ولكنها تكون الغالبة لأنها تتصل بمصدر القوى؛ ولأنها تمثل القوة الغالبة. قوة الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، محطم الجبارين، ومخزي الظالمين وقاهر المتكبرين.
وهم يكلون هذا النصر لله: {بإذن الله}.. ويعللونه بعلته الحقيقية: {والله مع الصابرين}.. فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل..
ونمضي مع القصة. فإذا الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله، التي تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء، وتستمد قوتها كلها من إذن الله، وتستمد يقينها كله من الثقة في الله، وأنه مع الصابرين.. إذا هذه الفئة القليلة الواثقة الصابرة، الثابتة، التي لم تزلزلها كثرة العدو وقوته، مع ضعفها وقلتها.. إذا هذه الفئة هي التي تقرر مصير المعركة. بعد أن تجدد عهدها مع الله، وتتجه بقلوبها إليه، وتطلب النصر منه وحده، وهي تواجه الهول الرعيب:
{ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا: ربنا أفرغ علينا صبراً، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
فهزموهم بإذن الله، وقتل داود جالوت، وآتاه الله الملك والحكمة، وعلمه مما يشاء}..
هكذا.. {ربنا أفرغ علينا صبراً}.. وهو تعبير يصور مشهد الصبر فيضاً من الله يفرغه عليهم فيغمرهم، وينسكب عليهم سكينة وطمأنينة واحتمالاً للهول والمشقة. {وثبت أقدامنا}.. فهي في يده- سبحانه- يثبتها فلا تتزحزح ولا تتزلزل ولا تميد. {وانصرنا على القوم الكافرين}.. فقد وضح الموقف.. إيمان تجاه كفر. وحق إزاء باطل. ودعوة إلى الله لينصر أولياءه المؤمنين على أعدائه الكافرين. فلا تلجلج في الضمير، ولا غبش في التصور. ولا شك في سلامة القصد ووضوح الطريق.
وكانت النتيجة هي التي ترقبوها واستيقنوها: {فهزموهم بإذن الله}.. ويؤكد النص هذه الحقيقة: {بإذن الله}.. ليعلمها المؤمنون أو ليزدادوا بها علماً. وليتضح التصور الكامل لحقيقة ما يجري في هذا الكون، ولطبيعة القوة التي تجريه.. إن المؤمنين ستار القدرة؛ يفعل الله بهم ما يريد، وينفذ بهم ما يختار.. بإذنه.. ليس لهم من الأمر شيء، ولا حول لهم ولا قوة ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته، فيكون منهم ما يريده بإذنه.. وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين.. إنه عبد الله. اختاره الله لدوره. وهذه منة من الله وفضل. وهو يؤدي هذا الدور المختار، ويحقق قدر الله النافذ. ثم يكرمه الله- بعد كرامة الاختيار- بفضل الثواب.. ولولا فضل الله ما فعل، ولولا فضل الله ما أثيب.. ثم إنه مستيقن من نبل الغاية وطهارة القصد ونظافة الطريق.. فليس له في شيء من هذا كله أرب ذاتي، إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة قائم بما يريد. استحق هذا كله بالنية الطيبة والعزم على الطاعة والتوجه إلى الله في خلوص.
ويبرز السياق دور داود:
{وقتل داود جالوت}..
وداود كان فتى صغيراً من بني إسرائيل. وجالوت كان ملكاً قوياً وقائداً مخوفاً.. ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجري بظواهرها، إنما تجري بحقائقها. وحقائقها يعلمها هو. ومقاديرها في يده وحده. فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم، ويفوا الله بعهدهم. ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده. وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير، ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم.. وكانت هنالك حكمة أخرى مغيبة يريدها الله. فلقد قدر أن يكون داود هو الذي يتسلم الملك بعد طالوت، ويرثه إبنه سليمان، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل؛ جزاء انتفاضة العقيدة في نفوسهم بعد الضلال والانتكاس والشرود:
{وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء}..
وكان داود ملكاً نبياً، وعلمه الله صناعة الزرد وعدة الحرب مما يفصله القرآن في مواضعه في سور أخرى.
أما في هذا الموضع فإن السياق يتجه إلى هدف آخر من وراء القصة جميعاً.. وحين ينتهي إلى هذه الخاتمة، ويعلن النصر الأخير للعقيدة الواثقة لا للقوة المادية، وللإرادة المستعلية لا للكثرة العددية.. حينئذ يعلن عن الغاية العليا من اصطراع تلك القوى.. إنها ليست المغانم والأسلاب، وليست الأمجاد والهالات.. إنما هو الصلاح في الأرض، وإنما هو التمكين للخير بالكفاح مع الشر:
{ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض. ولكن الله ذو فضل على العالمين}..
وهنا تتوارى الأشخاص والأحداث لتبرز من خلال النص القصير حكمة الله العليا في الأرض من اصطراع القوى وتنافس الطاقات وانطلاق السعي في تيار الحياة المتدفق الصاخب الموار. وهنا تتكشف على مد البصر ساحة الحياة المترامية الأطراف تموج بالناس، في تدافع وتسابق وزحام إلى الغايات.. ومن ورائها جميعاً تلك اليد الحكيمة المدبرة تمسك بالخيوط جميعاً، وتقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق، إلى الخير والصلاح والنماء، في نهاية المطاف..
لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض. ولولا أن في طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية القريبة، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع، فتنفض عنها الكسل والخمول، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة، وتظل أبداً يقظة عاملة، مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة.. وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء.. يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة. تعرف الحق الذي بينه الله لها. وتعرف طريقها إليه واضحاً. وتعرف أنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض. وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل، وإلا أن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعة لله وابتغاء لرضاه..
وهنا يمضي الله أمره، وينفذ قدره، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح هي العليا، ويجعل حصيلة الصراع والتنافس والتدافع في يد القوة الخيرة البانية، التي استجاش الصراع أنبل ما فيها وأكرمه. وأبلغها أقصى درجات الكمال المقدر لها في الحياة.
ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر. ذلك أنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض، وتمكين الصلاح في الحياة. إنها تنتصر لأنها تمثل غاية عليا تستحق الانتصار.
وفي النهاية يجيء التعقيب الأخير على القصة:
{تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق، وإنك لمن المرسلين}..
تلك الآيات العالية المقام البعيدة الغايات {نتلوها عليك}.. الله- سبحانه وتعالى- هو الذي يتلوها وهو أمر هائل عظيم حين يتدبر الإنسان حقيقته العميقة الرهيبة.. {نتلوها عليك بالحق}.. تحمل معها الحق. ويتلوها من يملك حق تلاوتها وتنزيلها، وجعلها دستوراً للعباد. وليس هذا الحق لغير الله سبحانه. فكل من يسن للعباد منهجاً غيره إنما هو مفتات على حق الله، ظالم لنفسه وللعباد، مدع ما لا يملك، مبطل لا يستحق أن يطاع.
فإنما يطاع أمر الله. وأمر من يهتدي بهدى الله.. دون سواه..
{وإنك لمن المرسلين}..
ومن ثم نتلو عليك هذه الآية؛ ونزودك بتجارب البشرية كلها في جميع أعصارها؛ وتجارب الموكب الإيماني كله في جميع مراحله، ونورثك ميراث المرسلين أجمعين..
بهذا ينتهي هذا الدرس القيم الحافل بذخيرة التجارب. وبهذا ينتهي هذا الجزء الذي طوَّف بالجماعة المسلمة في شتى المجالات وشتى الاتجاهات؛ وهو يربيها ويعدها للدور الخطير، الذي قدره الله لها في الأرض، وجعلها قيمة عليه، وجعلها أمة وسطاً تقوم على الناس بهذا المنهج الرباني- إلى آخر الزمان.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7